شعار قسم مدونات

يوميات مترجم لغة الإشارة

Sergio Colas uses sign language while having lunch with other deaf friends during the start of the San Fermin festival in Pamplona, northern Spain, July 6, 2016. REUTERS/Susana Vera SEARCH "SERGIO COLAS" FOR THIS STORY. SEARCH "THE WIDER IMAGE" FOR ALL STORIES.
يصحو مبكراً وبرأسه ألف حكاية وحكاية، يحضر نفسه والأفكار تتزاحم ، فأمامه يوم طويل شاق، يستذكر أجندته والمهام الملاقاة على عاتقه، يتذكر الأصم محمد الذي ينوي الزواج وإكمال نصف دينه، وهو المكلف بالترجمة ومفاتحة الأب، ماذا سيقول لأب الفتاة التي أحبها (محمد الأصم)، وكيف سيقنعه بأنه شاب قادر على العطاء وأنه يكسب رزقه من عرق جبينه، وكيف سيؤكد له بأنه مثلنا لا ينقصه شيء سوى أنه لا يسمع ولا يجيد الكلام..

يا إلهي كيف سأقول له -يحادث نفسه- "أنه لا يسمع ولا يجيد الكلام مثلنا" لا لا هذه صعبة على والد الفتاة، وكيف سأقنعه بأن محمد استطاع أن ينهي دراسته الجامعية دونما سمع وتعلم بواسطة لغة الإشارة، كيف سأنقل له بأن ابنته أحبت محمد الأصم وأتقنت لغة الإشارة لأجله، أفكار حائرة كثيرة تخص محمد الأصم، لكن على الله الاتكال..

تناول إفطاره على عجالة وهو ينظر لساعته، قاربت الساعة الثامنة وعليه الخروج للقاء يوسف وزوجته -وكلاهما صم- للذهاب إلى الطبيبة النسائية، وكان من المفترض أن ترافقهم مترجمة لغة الإشارة ولكن لظرف طارئ اعتذرت عن عدم قدرتها على التواجد، وهو من سيقوم بالترجمة ما بين زوجة يوسف والطبيبة النسائية، ماذا سيفعل وكيف سيكون موقفه وهو يشعر بالخجل منذ الآن ، واستدرك قائلاً: ما علينا.. لنتوكل على الله.

تأتي الحاجة الاجتماعية لمترجمي لغة الإشارة لوجود عدد كبير من النشاطات النموذجية في المجتمع وجميعها تتطلب خدمات مترجمي لغة الإشارة.

وتبادر لذهنه عبدالله ابن الخامسة والعشرون عاماً الباحث عن عمل ولديه مقابلة في شركة الألبان الساعة العاشرة صباحاً بناءً على إعلان في الصحيفة وحاجتهم للعمال، وبدأ يخطط للمقابلة ويتساءل ما الكلمات التي سأبدأ فيها لأقدم عبدالله بصورة لائقة وكيف ستكون استجابتهم عندما يعلمون أنه أصم، كيف سيجتاز هو وعبدالله عنصر المفاجأة، هل سيقبلون به، هل يطبقون قرار نسبة التشغيل الخاصة بالأشخاص ذوي الإعاقة، هل سيردون علينا كما يفعل الكثير من أرباب العمل أن الإعاقة تحد من عمله لخطورة الأجهزة وكونه لا يسمع فأنها خطره عليه ويعتذرون منا، وقال بقرارة نفسه "خليها على الله" .

وإذ بهاتفه النقال يرن بمكالمة فيديو من أحمد الأصم الذي لديه امتحان ويحتاج لمترجم ويدور الحوار الصامت الصاخب بالحركات.. 
-الأصم: هل لديك وقت غداً صباحاً الساعة الثامنة..
-المترجم: للأسف لدي ارتباطات مع فلان وفلان وفلان حتى منتصف الليل.. 
-الأصم: ومن سيذهب معي.. 
-المترجم: لا أعرف "لك الله".
ولم يكد ينهي مكالمته واذا باتصال آخر
-المترجم: نعم
-المتصل: معك الشرطي سالم من مركز شرطة أمن العاصمة.. هل أنت السيد– فلان – مترجم لغة الإشارة؟
-المترجم: نعم تفضل..
-الشرطي: يوجد لدينا أصم مشتكى عليه ولا نفهم عليه شيئاً، هلا تفضلت إلينا للقيام بالترجمة الآن.
-المترجم: لكني ملتزم في أعمال أخرى مع بعض الأشخاص الصم..
-الشرطي: إذن يبقى بالحجز لحين يأتي مترجم.
-المترجم: له الله.

بخطى متسارعة توجه لبوابة الخروج وهو يتفقد محفظته للتأكد من مخزونه المالي الضئيل ويتساءل بقرارة نفسه هل يكفيه حتى نهاية الشهر للإيفاء بالإلتزامات المترتبة عليه وقد قارب على النفاذ، وفجأة تذكر أجندته لهذا اليوم، وبدأ يفكر بحجم المعاناة التي يتعرض لها أصدقاؤه الصم في حياتهم وليس لهم من قلة الحيلة سوى اللجوء إلى الله وتذكر أهمية الانتهاء من كافة الأعمال قبل التوجه الأسبوع القادم لأداء مناسك العمرة ومعه أكثر من خمسين أصما من الجنسين، سيبدأ بحفظ بعض الأدعية ليدعوا لهم ولنفسه وهو العارف المطلع على احتياجاتهم فكانت أدعيته التي حفظها هي:

– اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلّمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً.
– ربِ اشرح لي صدري ويسر لي أمري وأحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.
– اللهم علمنا ما جهلنا، وذكرنا ما نسينا، وافتح علينا من بركات السماء والأرض إنك أنت السميع العليم.
– اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي، فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي وأعطني سؤالي، وتعلم مافي نفسي فاغفر لي ذنبي يامن يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

لهذا كله تأتي الحاجة الاجتماعية لمترجمي لغة الإشارة لوجود عدد كبير من النشاطات النموذجية في المجتمع -والتي يشارك فيها الأصم منطقياً- وجميعها تتطلب خدمات مترجمي لغة الإشارة، ليعملوا جسراً عبر رموز اللغتين المنطوقة والإشارية، في ضوء الطلب عليهم في مجالات كثيرة تتطلب تواجدهم في كثير من المؤسسات فعلى سبيل المثال: الخدمات الإدارية وخدمات الضمان الاجتماعي والخدمات الصحية (المستشفيات والمراكز الصحية)، كذلك الخدمات القانونية (كالمحاكم ومراكز الشرطة)، والمؤسسات والوزارات الخدماتية (وزارة التربية والتعليم ، وزارة الثقافة، وزارة الشؤون الاجتماعية، البلدية، ديوان الخدمة المدنية، شركة الطيران، شركات الاتصال.. إلخ) فهل ينظر لهم من قبل أصحاب القرار في بلداننا العربية وفي الختام نقول "توكلنا على الله ،ومن يتوكل على الله فهو حسبه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.