شعار قسم مدونات

في التعليم(3) العام والخاص لتمويل هادف

blogs-التعليم

لأن المؤسسة التعليمية هي من يصنع مستقبل الاقتصاد والسياسة والفكر في المجتمعات، فإن قضايا تمويل التعليم وحساب العوائد منه، وطرق ترشيد النفقات التعليمية وزيادة نجاعتها أصبحت أمرا سياديا لدى جل دول العالم، وأصبحت معها المواضيع التي تعنى بالدراسة والتحليل من الباحثين والخبراء في هذا المجال هدفا استراتيجيا لها، والهدف هنا هو بناء نظام تعليمي بأقل تكاليف ممكنة وأعلى جودة مرجوة تمكن من إعداد فرد متعلم قادر على العمل والعطاء والتكيف مع التطورات المهنية السريعة، بما يحقق أقصى عائد ممكن من التعليم.
 

ولأن الأمر كذلك، فقد شهد الإنفاق العالمي على التعليم منذ بداية القرن الجديد قفزة كبيرة من حيث النفقات المخصصة له، حيث وصل التمويل المخصص للتربية والتعليم منذ العقد الأخير من القرن الماضي إلى 5 في المائة من الناتج القومي الإجمالي العالمي كل سنة. وهو في تطور مستمر وملحوظ عاما بعد عام بفضل الوعي بأهمية التعليم من طرف الحكومات والدول، وأيضا بفضل البرامج العالمية وخطط الهيئات الدولية الموجهة لهذا المجال، إضافة إلى التنافس الاقتصادي الشديد بين الدول وما يتطلبه ذلك من موارد بشرية تكون في مستوى هذه المنافسة الشرسة.
 

في كل عام تضخ أكبر شركات وادي السيليكون ملايين الدولارات وتجند مئات الخبراء والعلماء لتضع برامج كشف واستقطاب وتنمية المتعلمين، المتفوقين منهم بالخصوص.

لكن توزيع هذه النفقات كان في معظمه خاصا ببرامج تعليمية للدول المتقدمة، هذه الأخيرة التي تستحوذ سنويا على 90 في المائة من مخصصات الإنفاق على التعليم، إضافة إلى أن نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج القومي الإجمالي في هذه الدول مرتفعة جدا مقارنة بالدول النامية، ففي حين تبلغ هذه النسبة 6 في المائة في الدول المتقدمة فإنها لا تتعدى حاجز 5 في المائة في الدول النامية، وهو الأمر الذي ترك فجوة تعليمية هائلة ومستمرة بين العالمين و لصالح العالم المتقدم. وتتأثر آليات تمويل التعليم عادة بعوامل متنوعة، يمثل مستوى الرفاهية الاقتصادية للبلد أهمها، إضافة إلى السياسة التنموية للحكومة وتعلقها بالتعليم والتكوين.
 

ويبرز نظام التمويل الأمريكي للتعليم كنظــام إداري ناجع، باعتباره استطاع أن يبني نموذجا لامركزيا تتنوع فيه القوانين التي تحكم هيكل ومضمون برامج التعليم بدرجة كبيرة ما بين ولاية وأخرى، لكنه مع هذا يصنع في العموم نظاما وطنيا شبه موحد مبني على الحاجات الاجتماعية والاقتصادية الوطنية المستشرفة.
 

ونتيجة لامركزية النظام التعليمي في هذا البلد نجد أن تمويله سلس ويعتمد على القطاعين العام والخاص، ففي القطاع العام يتم التمويل عبر ثلاث مصادر رئيسية:
1- تشارك الحكومة الفيدرالية بنسبة 4 في المائة من الميزانية الكلية، وهي لا تشرف إشرافاً مباشراً على التعليم، وتكتفي فقط بإدارة البحث التربوي والمنح الفيدرالية التعليمية وتقديم الخدمات التعليمية للولايات والهيئات القومية.
 

2- تمول حكومة الولاية حوالي 39 في المائة من الميزانية، وتشرف على شؤون التعليم في محيطها الولائي، حيث يكون لحاكم الولاية سلطات تمويلية وتشريعية هامة على التعليم، ويعتبر فاعلا محوريا في رسم السياسة التعليمية للولاية.

4- تعود الحصة الأكبر من الميزانية للحكومة المحلية بنسبة 57 في المائة، وتنقسم كل ولاية إلى مقاطعات، وعلى رأس كل مقاطعة "مجلس التعليم المحلي" الذي يدير كل أمور التعليم بتفويض من الولاية التابع لها، حيث يتولى مهام بناء المدارس وتوظيف المعلمين والإداريين وتنظيم قبول الطلاب بمختلف المراحل التعليمية.
 

والأمر لا يتوقف هنا، فتشجيع المواهب في أمريكا لا يقتصر على الدولة فقط بل يتعداه إلى الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة، بل إن هذه الأخيرة تدفع سنويا ملايين الدولارات لكشف وتشجيع وتمنية المواهب الأمريكية لضمها في مشاريعها الاقتصادية مستقبلا. ولعل أبرز أمثلة هذا هي شركات وادي السيليكون.

وتعتبر تجربة إنشاء وتمويل المؤسسات والجمعيات المهتمة بأمور النظام التعليمي في وادي السيليكون تجربة فريدة من نوعها في العالم، ففي كل عام تضخ أكبر شركات الوادي ملايين الدولارات وتجند مئات الخبراء والعلماء لتضع برامج كشف واستقطاب وتنمية المتعلمين، المتفوقين منهم بالخصوص.
 

وفيما يلي سنعرض بعض تجارب الدعم والتمويل التي تلقتها هذه المؤسسات والجمعيات:
في كل عام تتبرع شركة فايسبوك بمبلغ لا يقل -في الغالب- عن المئة مليون دولار لمؤسسات تعليمية حكومية بوادي السيليكون من أجل تطوير برامجها وتجهيز قاعاتها بالتكنولوجيا الحديثة.

وتحضرني هنا -كأبرز مثال- الدعوى القضائية التي رفعتها عام 2014 قامت منظمة ستيودنت ماتر Students Matter ضد المدارس العامة في كاليفورنيا، هذه المنظمة التي كانت مدعومة من بعض شركات وادي السيليكون، وفريق على أعلى مستوى من المحامين يضم ثيودور أولسون النائب العام السابق للولايات المتحدة الأميركية، قامت بتمويل تسعة طلبة من إحدى المدارس العامة رفعوا قضية في محكمة كاليفورنيا يطعنون فيها ضد النظام التعليمي الذي يحظى بالتحصين فيما يخص تثبيت المدرسين في ولاية كاليفورنيا.
 

في كل عام تتبرع شركة فايسبوك بمبلغ لا يقل -في الغالب- عن المئة مليون دولار لمؤسسات تعليمية حكومية بوادي السيليكون من أجل تطوير برامجها وتجهيز قاعاتها بالتكنولوجيا الحديثة.

وأراد الطلبة من خلال القضية استرداد حقهم بالحصول على تعليم جيد من خلال رفع الحصانة الوظيفية التي تجعل من الصعب للغاية فصل المعلمين السيئين من وظائفهم. وبالفعل فقد أصدر أحد القضاة في ولاية كاليفورنيا الأميركية في جوان 2014 حكما يقضي بأن القوانين المتعلقة بالتثبيت الوظيفي للمدرس تحرم الطلاب من حقهم في التعليم، وفقا لما نص عليه دستور الولاية، كما أنها تنتهك حقوق الطلاب المدنية. ويتوقع الخبراء أن تسفر هذه القضية عن ظهور قضايا مماثلة في أروقة المحاكم في المدن والولايات الموجودة بالبلاد تمولها الشركات الكبرى في وادي السيليكون وغيرها والتي تستهدف من خلال ذلك تنمية القدرات العلمية للموهوبين والمتفوقين واستقطابهم في مشاريعها فيما بعد.
 

مثال آخر في التعليم العالي هذه المرة، فمنذ تسعينات القرن الماضي وبفضل التمويل الكبير الذي تطرحه كبرى شركات وادي السيليكون ظهر في جامعتي ستامفورد وبراكلي نوع من الأساتذة يسمون الأساتذة المستثمرين في الأفكار، وهم أساتذة يتلقون أجورا كبيرة من هذه الشركات من أجل قطف أهم الموهوبين في مدرجاتهم الجامعية وتمويل أفكارهم، إنه مشاركة الخواص في تمويل وتثمين التعليم ببساطة.

ولأن تجربة وادي السيليكون تجربة فريدة في تمويل التعليم وفي تثمينه كذلك فسيكون الجزء القادم خاصا بمستوى التعليم في هذه الرقعة الكاليفورنية الفريدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.