شعار قسم مدونات

مدادُ الحبر أقوى

blogs - write
الخط العريض للتاريخ يسَطَّـرُ بعقلية استطاعت أن تصل للكلمة الأقوى، التي تنضج بذهن القارئ كما أراد كاتبها، وإن لم تكن فإنها تصنع معجزة يُذهل مَن يعبرهَـا لوقتٍ كفيل أن يضيء داخله محتوىً آخر من المعرفة أو الرأي ومسالكَ أخرى..

 

لا أعدُّ ولا أحصي التاريخ بالكلمات التي جعلته تاريخاً حاضراً بيننا الآن، بشعابهِ وأزقتهِ ورجـالهِ وقصورهِ وأقوامهِ ومواسمهِ وتضاريسهِ التي لم نكن لندري ما جرى عبر آهاتِ السنين عليها لولا الكلمة، حتّـى الحيواناتُ التي انقرضت وقُـدّر لها النفاذ قبل وصولنا، من شكلها بالقلم وربما بالحجر أو ما شابه كَـان مُفضّلاً على علماء الجيولوجيا بما شكّل لهم وترك من بعده ثروة جعلتهم علماء! أما مَن حصـر ذاته بقوقعة التفاخر واستأثر تفكيره لنفسه فهذا مات قبل أوانه، ولا يذكر من متتالية حياتهِ إلا أنه شغر موقعاً هنا أو هناك ثمّ شغر اسمه موقعاً في سجلّ الوفيات!
 

أليست الكلمة هنا مدادُ حبر أخلص للورقة فأنضج ذاكرةً تقبعُ على الأرض دهوراً وتعاصر الأجيال وتبقى بشبابها مزهرةً كأن لم تمر عليها مواسم تشيخ منها القبور!

الكلمة قبل النقاط وبعدها وقبل التحريك وتطور الشكل جعلت من تسطير صفوف التعبير على الورق أو البردة أمراً يلخص الكثير من الإشارات التي عانى السابقون بكتابتها وعانى الحاضرون بفهمها، الكلمة لم تبخس من قدر الأحداث شيئاً وفي ذات الآن شكلت طوفاناً من التوثيق الصامد منذ أمد بعيد وأبعد بعضه شكلّ مكتبات عملاقة من القوة التي تدرس في جامعات عالمية وبشتى التخصصات، وجزء منها لا زال أحجية لم تفك رموزها، ربما راهن كاتبها أن تبقى أمداً بعيداً بحوزة عقله فقط، يحارُ فيها كل اللاحقين له من فلاسفة ونقاد وكتاب قبل وصول الرمق الأخير لفهمها!
 

على الجاهل أن يتعقل ويعلم أن الكلمة التي تُكتب أينما كانت ليست عبثاً، أُرِيد بها خيراً أم سوءاً، مقصودة أم لا، فُهمت كما أراد الكاتب أم لا، هي ولادةٌ جديدة تضاف لمخزون الكلمات في العالم أمامنا، وتترك بضاعة للمارقين لنختار نحن ما يليق منها بفكرنا وتوجهاتنا وواقعنا وما يرتبه الزمن من حكايا ومواقف تحتاج منّـا اطلاعاً لحسن التصرف فيها.
 

وعلى سبيل المثـال لا الحصـر "قطب" الذي ألف مجلدات لفهم القرآن وأفنى ذاتهُ حتى فناءه لهذا ولغيره من الكلم والعبر، ما نقرأه للآن بذات القوة وكأنه حاضرٌ نراه لا ماضٍ يؤرخ، ومن أصدر خطاباً مثل "غاندي" ذات ليلة عصماء اجتمعت فيها جماهيرٌ تنتظرهُ، ثم وثق كاتب هذا الخطاب لتعج به الصحف والمجلاتُ وينتشيَ المؤيد ليسخر المعارض، ومن رتل بحجم وجعه كالسّياب قبل وفاته قصيدة لوطنه، ثمّ خبأها تحت سريره أو في درج مكتبه المهترئ، ومات حاضناً خيبة أمله بالرجوع لوطنه، ليأتي القدر بقصائدهِ منهاجاً يدرس وغزلُ عشق يذكرُ مع تفاصيل وجعه واحتراق قلبه.
 

أليست الكلمة هنا مدادُ حبر أخلص للورقة فأنضج ذاكرةً تقبعُ على الأرض دهوراً وتعاصر الأجيال وتبقى بشبابها مزهرةً كأن لم تمر عليها مواسم تشيخ منها القبور! أنصحك يا سيدي الفاضل أن تخطَّ أنتَ أيضاً بمداد حبرك الخاص.. فهـو أقوى..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.