شعار قسم مدونات

قبل خطوط العدو

Israel

شاب ذو وجه ملائكي، وثغر بسام، لم يتجاوز العشرين إلا بقليل، يحمل صندوقاً أسودَ ويخطو كليثٍ لا يُخطئ فريسته، ثبّت الصندوق بجسده على جدار دبابة "الميركافا"، وضغط على زر التفجير الأحمر مع صيحة "الله أكبر"، ليحوّل واحدة من أقوى المدرعات العسكرية في العالم إلى قطعة من الخردة غير معروفة المعالم، وستة من جنود الاحتلال إلى كومة من اللحم المتفتت.
 

وآخر فرت منه "الميركافا" كما تفر الجرذان من بني البشر، وهي لا تدري أنه قطع البحر بآلاف الأمتار ليقطع تذكرة الموت لراكبيه، حين وطأت قدماه قاعدة "زكيم البحرية" المقامة على شواطئ مدينة عسقلان المحتلة.. داست فتات ما تبقى من كرامة "لجيش البامبرز" المعروف.
 

وفي ناحل "عوز" يوظّف الجندي لحماية الحدود المسروقة، فيستجدي بأمه لتنقذه من قدمٍ داست رأسه أمام كاميرا صغيرة، لاحقاً جعلت منه أضحوكة أمام ملايين البشر، دقيقتان تكفيان ليكمل أبطال المقاومة مهمتهما على أكمل وجه ويعودوا بسلام، بينما الوقت يتسع لأعضاء نخبة القسام أن يلتقطوا صور السلفي داخل موقع "أبو مطيبق العسكري" بعد أن أجهزوا على من فيه، بل وصل بهم الاستهزاء "بالجيش الذي لا يقه" أن يعودوا إلى قواعدهم "قزدرة" بعد أن اغتنموا قطعاً من سلاح الجنود المقتولين.
 

النصر لا يأتي إلا إذا تحقق عنصران أساسيان هما "الإيمان والعمل"، فلا نصر إن حضر العمل بدون إيمان، ولا نصر إن اكتفوا بالإيمان فقط.

الإنزال خلف خطوط العدو أسلوب قتالي استخدمته المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها كتائب القسام في تنفيذ عدة عمليات بطولية داخل المواقع العسكرية "الإسرائيلية" المحيطة بقطاع غزة، في معركة العصف المأكول "حرب 2014" لتضع هيبة هذا الجيش على المحك، وتنسف أسطورية الجيش الذي لا يقهر، كما روّج لنفسه منذ عشرات السنين.
 

شاهدنا خلال الحرب وفي أعقابها مشاهد مشرفة من هذه العمليات وتعرفنا على تفاصيل تُحيي قلوباً أذابتها ليالي العدوان الثقيلة، لكن ما الذي يدفع شبابا في ريعان أعمارهم إلى الإقدام على هذه الخطوة المجنونة، وكيف نجحوا في ذلك؟
 

ستفعل أنت ذلك لو رأيت دموع جدك تنساب مع كل تعدادٍ لعشرات آلاف الأمتار التي قطعها مشياً على الأقدام كي يصل غزة، بعد أن بقرت "عصابات الهاغانا" بطن زوجته وذبحت جنينها أمام عينيه قبل ثمانية وستين عاماً ليبقى أسيراً لمشاهد جعلت رأسه شيبا مذ كان صغيراً، ستفعل ذلك أيضاً عندما ترى الأرض تحتضن ذاك الشاب الذي سقط مغشياً عليه بعد رؤية عائلته كاملة في ثمانية أكياس تحفظ ما تبقى من لحومهم، جراء قصف الطائرات الحربية لمنزلهم وهم بداخله.
 

أعلم يقيناً أنك لن تتردد أيضاً في فعل ذلك حينما ترقب انتظار أم أسير لم ترَ حبيبها منذ عشرين عاماً، يدفعها جندي جبان بقدمه على ذاك الحاجز الملعون، ويمنعها من زيارة ولدها بعد أن ابيضت عيناها من الحزن عليه، وكلها أمل أن تضمه إلى صدرها قبل أن تغادر روحها هذه الحياة، وكذا حال آلاف الأمهات التي غيبت الزنازين أبناءهم، وقبل كل ذلك ستفعلها لأجل الأمر الإلهي "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم".
 

أرأيت يا صديقي لم تعد خطوتهم مجنونة، بل أصبحت خطوة واجبة وأمراً لابد منه، وسأخبرك كيف استطاعوا أن ينجحوا في ذلك، حفظوا كتاب الله كاملاً، ووجدوا فيه "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين"، تربوا على أن صلاة الفجر صانعة المنتصرين، ومدرسة الفاتحين، فالتحقوا بها، ثم أعدوا وليس كما أي إعداد، واصلوا ساعات النهار بأخواتها في الليل، وتركوا لين الفراش، ليسيروا على فراش الشوك، فتروي كتائب القسام في فيلم "الطريق نحو زكيم" أن منفذي العملية تدربوا تدريباً قاسياً لمدة تزيد على العشر ساعات يومياً، حتى يؤهلوا لتنفيذ هذه العملية وتحقيق النجاح فيها، كما أشار أحد منفذي عملية الانزال خلف خطوط العدو في موقع ناحل عوز أن العملية لم تكن تستحق كل ذلك التدريب الصعب الذي تدربوه، تعلموا أن من خشي الموت خشي كل شيء، فلم يلقوا بالاً للموت نفسه.
 

وعلموا أن النصر لا يأتي إلا إذا تحقق عنصران أساسيان هما "الإيمان والعمل"، فلا نصر إن حضر العمل بدون إيمان، ولا نصر إن اكتفوا بالإيمان فقط، فآمنوا وعملوا ثم انتصروا، وكانوا السيف الذي يحرس الحق.
 

حينما يجتمع كل ما مضى في قلب أزهر على الحياة فوجدها تلفظه من وطنه، وتعاند على تجريده من أبسط حقوقه، لن يجد سبيلاً سوى أن يدافع عن حقوقه التي منحها الله لها وحثّه على استعادتها حتى آخر نفس يعيش به، فإما حياة تسر قلب متعاشيها وتمنحهم أنفاس الكرامة والحرية، وإما موت يشّرف سيرة أصحابه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.