شعار قسم مدونات

عالمٌ صغير

apple watch

أكتب هذه التدوينة وقد تأكد خبر وصول دونالد ترامب لكرسي الرئاسة الأمريكية في المكتب البيضاوي. وصل ترامب مشيّعا بدعاية ترويجية وفرها له معارضوه قبل مناصريه، كان يُراد منها الإطاحة به فأوصلته على بساط الريح للبيض الأبيض.

 

ترامب كان صريحا صادما، يتحدث كأنه في بيته عن إعادة أمريكا لسابق عظمتها، بطريقة جذبت إليه شريحة واسعة من الخائفين على مستقبل أمريكا "الأبيض"، ورغم كل الفضائح المسربة حول حياته الشخصية، والشكوك حول كفاءته، والتكهنات التي كانت تتوقع خسارته بفارق كبير، إلا أنه فاز بطريقة، لا شك في أنها صادمة، موفرا بذلك مادةً جيدة لمدربي التنمية البشرية يبيعونها بسذاجة حول الكفاح وتحدي الصعاب واقتحام المستحيل.

 

التحليلات السياسية لهذا الخبر ومآلاته وكيف سيغير وجه العالم ملأت الشبكة. تؤكد نظرية "أثر الفراشة"، أن حدثًا ما في شرق الأرض قد يؤثر على حدث آخر في غربها بسلسلة متوالية لا مرئية من التأثيرات المتدافعة والتي لا يمكن فهمها جيدًا، غير أنه لكثيرين، فإن ترامب ليس فراشة وإنما طائر كهل، بشع وعملاق يضرب بجناحيه مثيرا الكثير من الغبار، ومن الصعب التكهن بأي شيء في عالم يضطرب هكذا، وخصوصا في منطقتنا العربية، والتي يقرر مصائرها لاعبون كثر ازدحمت بهم الساحة، ما يجعل فكرة عقلنة ما يحدث، ومحاولة فهمه أمرا بالغ الصعوبة، مثلما يقرر الصديق "حمزة علي"، وهو يكتب قائلا:

 

نحملُ في جيوبنا عوالم مصغرة، إذ بالإمكان للجميع فتح حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، والانخراط في سياحة كونية لا نهائية، والاطلاع على قضايا الشعوب الأخرى واهتماماتهم

"المشكلة تكمن في أن من سيؤرخ لهذه الحقبة لاحقا لابد له من كتابة نص تاريخي عنها قائم على افتراض النظام والسببية والتماسك، حيث لابد للمؤرخ من تقديم تفسيرات موضوعية لما جرى من أحداث، وأنا من موقعي هذا أقول -إن كان ثمة من يأبه لما سأقول- أن ما يجري لا يمت للعقل والعقلانية والموضوعية بصلة".

 

بعيدا عن كل هذا، يثيرني جدا أمر لا أنفك أتأمله، وهو التداعي الكوني نحو خبر أو قضية ما بشكل لم يكن مسبوقا في المضي. لقد أصبحت أخبار الأمم كلها تهم الأمم كلها، وتمارس تغييرا في مصائرها، وتقتحم جدالاتها، وقد استوقفني أحد التقارير التي مررت بها في زحمة التقارير بالأيام الماضية وكان عن طائفة هندوسية صغيرة تصلي من أجل فوز ترامب!

 

لم أفهم مبررات الجماعة لدعمه ولا تهمني إطلاقا، ما يهمني هو الأسئلة السوسيولوجية التي جاءتنا على أكفِّ التقنية، جاعلة من العالم الأزرق -فعلا- قرية صغيرة.

 

منذ بداية الوجود البشري وتعرف الإنسان على نفسه والكون وتكوينه لجماعاته، ومن ثم تعرفه على الجماعات الأخرى، والمصائر البشرية تتلاقى وترتبط بوتيرة بطيئة وتسارع معقول وثابت إلى حد ما، لكن الذي حدث أن العولمة والحوسبة والتقنية سرّعت من هذا التلاقي بشكل كبير جدًا، يصعب معه الإحاطة به وفهمه، أخذا بعين الاعتبار قصر عمر الإنسان، والحاجة لأجيال من التراكم المعرفي لفهم شيء ما.

 

نحملُ في جيوبنا عوالم مصغرة، إذ بالإمكان للجميع فتح حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي، والانخراط في سياحة كونية لا نهائية، والاطلاع على قضايا الشعوب الأخرى واهتماماتهم، وسماع جدالات حول ملايين الأشياء التي حدثت وتحدث في العالم.

 

بدا هذا التجول الحر صخرةً تتحطم عليها اليقينيات، وكانت الإطلالة على قضايا الآخرين وجدالاتهم فرصة لتبنيها في بلاد لها سياقات اجتماعية مختلفة، ولا أدل على ذلك من الجدل الكبير في العالم العربي الذي نشأ إبان إقرار زواج المثليين في الولايات المتحدة، حين صعدت أصوات تنادي بإجازته في اتساق مع مفهوم الحرية بإطلاق، بينما لا يزال التمثيل السياسي في العالم العربي متخلفا، وفرص الديمقراطية الوليدة موؤودة، ولنا أن نتساءل عن إمكانية حدوث هذا الجدل لولا التقنية ومواقع التواصل؟

 

بالأمس، حكى لي شخص مسن عن فقيهٍ في قريتهم سافر في زمن بعيد لليمن واستقر بها سنين يطلب العلم الشرعي، وبعد أن عاد للقرية واستقر بها، عنّت له مسألة، ولأجل أن تتجلى له سافر ثانية لليمن وظل سنين أخرى للطلب، وهناك أمثلة كثيرة كهذه في تراثنا وفي تراث كل الأمم.

 

كم ميًلا على الإنسان أن يسافر من أجل معلومة؟ وما هي الصعوبات أمام انتقال فكرة ما من مجتمع وسياق إلى مجتمع وسياق آخرين، ليتم تبنيها أو رفضها بعد أن ابتدعها ذهن صاحبها؟ ومتى نبدأ الاهتمام بشؤوننا وقضايانا لا شؤون وقضايا الآخرين؟

 

إنها أسئلة لا معنى لها في زمن "الإصبع الصغيرة"، زمن جوجل وفيسبوك وتويتر.

 

يومًا بعد يوم، يصبح شأن العالم واحدا، ومصيره واحدا، وربما تكون حكومته يومًا ما واحدة ونواتها "الأمم المتحدة"، وهنا لا أمارس طقسًا للسعادة ولا للرثاء، إنما أصف وأتوقع وحسب. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.