شعار قسم مدونات

محنة الهوية

blogs - human
كشاب ولد ونشأ في السودان بينما جذوره حية رطبة في إرتريا كثيرا ما يواجه بالسؤال: سوداني أنت أم إرتري؟

هذه الياء التي تمسك الإنسان من تلابيبه وتشده إليها بعنف، هذه الياء تدير مسيرته على ظهر الأرض، لا يمكن أن ينفك عنها أبدا، في كل زاوية من زوايا هذا العالم الفسيح لا بد من انتماء، لا بد أن يعود لأب ما وأرض ما، مهما كان البعد بينه وبين ما/ من ينتمي إليه..

كل خارج من حدود الوطن لا يكاد يفكر أبدا بالعودة مجددا، وإنما يبحث عن فرص عيش أفضل متطلعا لأرض ينعم فيها برفاهية.

هذا السؤال -سؤال الأرض والوطن- يحصر الإنسان -شاء أم أبى- ويلزمه هوية معينه، يعامل بناء عليها، إنه أشبه بقالب معد مسبقا ينتظره ليحشر فيه، تماما كأسطورة "بروكوست" نوضع على السرير ولابد أن نكون على مقاسه، لا نعزب عنه ولا نزيد عليه..

 فتصير الهوية التي ننسب إليها مقدمة على الذات وما تحويه من مزايا وعيوب، فيحمل الإنسان رغما عنه أوزار غيره ويدفع ديون أسلافه الثقيلة أو يعيش مرفها على تركتهم، ولابد له من ذلك في المجتمع الإنساني..

ولهذا يتحمل المواطن البسيط نتيجة قرارات حكوماته ويدفع تكاليفها من جيبه، بل من دمه أيضا إن لزم الأمر..

وفي حالتنا -هذه- كفرد في جماعة تفرقت أيدي سبأ ولم تعد تمتلك مقومات الجماعة، فلا قيادة تجمع أفرادها أو وحدة فكرية أو أرض تجمعهم في حدودها، ما معنى أن يكون المرء إرتريا؟

ألوف من الناس هجرت الأرض التي هاجر إليها صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين ضاقت بهم مكة وأشتدت عليهم قريش -على ما يروي أهل الأرض ويحتفظون بشواهد على تلك الهجرة- ؛هذه الألوف لم تجد في أرضها ما وجده مهاجرة الصحابة -رضوان الله عليهم- فخرجوا زرافات ووحدانا ونشأت أجيال لا تعرف لتلك الأرض رسما، هل ثمة مبرر لتنسب هذه الألوف لتلك الأرض ولا يربط بينهما سوى ياء النسب وجوازا -إن وجد-؟

فكل خارج من حدود الوطن لا يكاد يفكر أبدا بالعودة مجددا، وإنما يبحث عن فرص عيش أفضل متطلعا لأرض ينعم فيها برفاهية، وقد يقوده هذا ليكون طعاما لحيتان المتوسط أو كواسر الصحراء أو ينجو فيكون إنسانا جديدا يبصر الحياة، كالشخص الذي مثل أفلاطون بخروجه من الكهف ومشاهدته الحياة وجها لوجه على حقيقتها، لا على الظلال التي ظل حبيسا لها، لا يعرف من الحياة شيئا غيرها..

يحدو هذا المهاجر أمل يزين له الحياة التي تنتظره وراء تلك الأمواج البعيدة في بلاد الشمال، يسوق الأمل فتاه المهاجر بلطف إلى محن يكابدها تشوقا لما يرسم في مخيلته..

أما الديار التي تركها خلفه فقد رمى عليها سبع حصيات منطلقا في رحلة البحث عن وطن جديد يليق أن يسمى وطنا، أيكون عيبا أن يبحث الإنسان عن وطن آخر يجد فيه الحياة؟

هنا على بعد كيلومترات -ربما سها المستعمر وضمها لبلد آخر- قد توجد الحياة والأمل، فهل عليك لتثبت حبك لأرضك ألا تنتمي لهذه الأرض الجديدة؟

إننا إذن في حوجة لنعرف ما هو الوطن، وما هو الحب! لقد كانت الإنسانية تعيش آمنة مطمئنة قبل أن تبتلى بالدولة القومية الحديثة، فليس على امرئ حرج أن يرتحل حيث شاء وينتسب لأكثر من بلد، فما تعني بسطاء الحياة من الرعية خلافات الولاة ومطامع الأمراء..

إن الناس يبحثون عن الحياة والسعادة في حين يبحث الساسة والأمراء عن السلطان .. ثم أتت "الدولة الحديثة" قاضية على ما تبقى من الإنسان، فصيرته رقما في إرشيفها وبطاقة في جيبه بدونها يكون عدما أو شبه عدم وبقدر تطور الدولة ورقيها يكون تدمير الإنسان؛ فتتناسب عديمة الإنسان طرديا مع تطور دولته التي تحكمه..

فلا تكون الصلة مع الوطن بإعمار الأرض والانتفاع بها -وهو الهدف الذي خلقت من أجله- ، ولكن يصبح الإنسان قربانا لنار تلتهمه باسم الوطن..

وإن كان فيما مضى صح للصعاليك التمرد على مجتمعهم ورفض القيم الحاكمة وإنشاء مجتمع خاص بهم، فإن اليوم تبدو الصعلكة أمر لا يمكن وجوده، فما من شبر في هذه الأرض إلا وهو جزء من دولة ترى مثل هذا الوجود جسما غريبا وخطرا يهدد الوطن..

لقد حكمتنا الهوية في هذا العالم حكما قاسيا تكاد تنعدم معها إمكانية وجود تمايز، فهي ثقافة واحدة تهيمن على الوطن تحول المواطنين لنسخ متكررة من شيء واحد، لا تكاد تجد اختلافا بينها، طموح وآمال تدور كلها في فلك واحد حياة في ظل الهوية!

إن العبادات التي يؤديها العبد تديّنا أطيب أثرا في نفسه من التكاليف التي يدفعها المواطن ضريبة في وطنه!

إن تسليمنا للدولة والهوية التي تمثلها يجعلنا في محنة حقيقية، يجعل الإنسان وماهيته في خطر، لأنه يتحول لترس في آلة ينتج شغلا لتحريك تلك الآلة، وكل ما يصل إليه من تغذية؛ إنما لتشغيل الآلة العظيمة التي هو جزء منها، وإن خرج منها فقد وجوده لأنه صار ميتا لا حراك فيه..

إن الشيء الوحيد الذي ينقذ الإنسان من العدمية هذه، الدين، أو الأفكار التي يعتنقها ويعمل من أجلها ..

الدين يجعل الإنسان متجاوزا لحدوده المادية الضيقة التي يعيشها في سطوة الحداثة ودولتها، وكلما كان ارتباطه به أوثق كان أكثر إحساسا بوجوده وبذاته..

إن العبادات التي يؤديها العبد تديّنا أطيب أثرا في نفسه من التكاليف التي يدفعها المواطن ضريبة في وطنه!

وإن كانت هذه أيضا هوية وياء تجعل الإنسان يتبع شيئا آخرا غير نفسه، فإنه لا مجال للمقارنة بين الهويتين؛ فإن عالم الأفكار والإيمان ينشأ من داخل الإنسان، نداء من وجدانه يتبعه ويسير عليه، خلافا للحالة الأولى التي تحكم البشرية تبعا لأرض لا تنال قدسيتها إلا من كونها تحوي رفات أجداده، فهذه وإن كانت قيمة لها أثر في وجدان الإنسان لكنها لا تكون أبدا مساوية لمعاني الفضيلة والحق والخير التي تحدو ضمير البشرية لهجر أوطانهم وترك الدنيا بكل زخرفها والبحث عن ما يشبع تلك المطالب..
 
وفرق كبير جدا أن الانتماء إلى شيء ليس للإنسان فيه يد، شيء وجده مفروضا عليه لا يكون كالانتماء لما حازه بنفسه، ببحثه، في الأول معنى من معاني الجبر، وفي الثاني معنى من معاني الحرية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.