شعار قسم مدونات

حكاية "الجزيرة في عقدين"

blogs-الجزيرة 20 عاما
" النجاح ملك لمن يدفع الثمن" أوريسون سويت
 
(1) للرأي وطن
تتحول الحياة بكاملها إلى زيف لا يحتمل، حينما يكون الرأي في غياهب الجب فلا يلتقطه السيارة ولا يرى النور ويبقى سرمدياً في ظلمة الأنا والتسلط! أين يمكن للرأي أن يضرب أطنابه في أرض العرب؟! هل يحتمل العربي إزعاج الحقيقة التي لا يحبها عادةً، ويراها كابوساً فظيعاً يؤرقه، ويقطع نومه الطويل ووِقْرَ أُذُنيه، كي لا تطنُّ الحقيقةُ أسماعه ولا تخترقُ عقله!
 

حالة سباتٌ عميق عاشها العرب خلال نصف قرنٍ من التعبئة المزيّفة وخداع الجماهير بديماغوجية قبيحة، ولمّْا اقترب القرن من نهايته ببضع سنين، أطلَّ جمال ريان على الشاشة ليقول "هذه أول نشرةٍ إخبارية من قناة الجزيرة.."، ومنذ ذلك التاريخ في نوفمبر 1996 ونحن أمام حالة إعلامية عربية استثنائية ومدهشة استلهمت من "الرأي والرأي الآخر" قصة نجاحها ووهجها فضلاً عن ثقة الجماهير بها.
 

الجزيرة ليست كمال الإعلام، لأن الكمال غايةٌ أرضيةٌ مستحيلة، لكن الجزيرة شرفُ محاولةٍ آخاذ، يجبرك على الاحترام طالما كان ذلك الشرفُ مستمراً لا تعيقه الدناءة ولا وضاعة الضمير

يصف مالكوم إكس الإعلام بالقوة الضاربة القادرة على جعل المذنبينَ أبرياء، والأبرياء مذنبين! هنا في الجزيرة، الوضع مختلفٌ تماماً.. فالرأي الآخر له صولات، بل وأحياناً تُلام الجزيرة على عرضها لآراء أخرى هي في نظر الجماهير سخيفة أو باطلة. لكن ذلك من صميم رسالة التزمتها الجزيرة على كل حال.
 

(2) حجة البليد: الكمال
يأتي أحدهم ليقول: لا يوجد حيادٌ كلي، ولكلٍ أجنداته! يا صديقي: من قال لك أننا نطلب الكمال؟! أنت بنفسك ترى ما حولك فقيراً لأبسط أبجديات المهنية والمصداقية والحياد.. أليس كذلك، فكيف تصرخ بالكمال؟!

الجزيرة ليست كمال الإعلام، ليست مثاليةَ هذا العالم الرقمي ذي القرية الواحدة، لأن الكمال غايةٌ أرضيةٌ مستحيلة، لكن الجزيرة شرفُ محاولةٍ آخاذ، يجبرك على الاحترام طالما كان ذلك الشرفُ مستمراً لا تعيقه الدناءة ولا وضاعة الضمير.
 

(3) ذكريات بنائية
كنت في السنة الجامعية الأولى حين ظهرت الجزيرة بنوفمبرها الأول، عشرات الآلاف من ساعات البث التي تتجدد بفريق عمل مبدع وعمل لا يعرف التلكؤ ولا المستحيل. لقد تشكل وعيي كما هو الحال لدى ملايين الشباب، على فسيفساء الأفكار والتنوع وثقافة الحقوق والحوار. وبعد تلك السنوات، وفي مرحلة نضج -محتملة- لم يعد لدي شك في ريادة الجزيرة وأنها نافذة تُغرِّدُ وحيدةً خارج السرب.
 

في برامج الجزيرة الحوارية، ميَّزنا اختلافَ التنوع عن اختلافِ التضاد. لقد بتنا قادرين على فهم اختلاف التنوع كضرورة حتمية للتعايش ولاكتمال صورة المجتمع ولتنتظمَ مسيرةُ الحياة. بينما نفقهُ اختلافَ التضاد كمدعاة للحذر ومواجهة المؤمرات التي تُحاكُ في اتجاهات مختلفة!
 

يقول الراحل جلال عامر: مذابح المصريين تبدأها كتيبة الإعلام وتنفذها كتيبة الإعدام. هذا حقاً في الإعلام الرديء، إعلام شيطنة الخصوم والطرح الأحادي. لكن الجزيرة تبني منهجيتها على طرح الأفكار العامة والتساؤلات البدهية لا على القولبة وتحديد الأنماط.
 

حدد جورج لاكوف أستاذ الدعاية السياسية والاتصال الأمريكي نموذجين للدعاية هما "نموذج الأب الصارم" و "نموذج الأب الحنون". ولنقيس النموذجين على الجزيرة، سنجدها ليست أباً صارماً يضع التأطيرات بشكل مباشرٍ أمام الجمهور على طريقة "لا أريكم إلّا ما أرى"، فيتعيّْنُ على الجمهور ذاته أن يتقبّْلَ التأطيرات كحقائق مسلمّْة بلا نقاش أو تفكير.
 

والجزيرة أيضاً ليست أباً حنوناً يضع التأطيرات بمحسِّناتها وتلطيفاتها أمام المتلقي ليتقبَّلها بمسحةٍ من الإقناع. إن وسيلةً إعلامية اتصالية تصل بصوت المقموعين والمقهورين إلى العالم ليسمعه، يستحيل عقلاً ومنهجاً أن تكونَ ماخوراً للدعاية السياسية والخداع الأسطوري.
 

عملت الجزيرة مباشر على الوصول لكل تفاصيل الإنسان العربي، وصلت لأدق تفاصيل الشارع، لهموم الناس ومشكلاتهم، للثائرين والمحاربين من أجل الكرامة.

(4) تفكيك الخطاب
أثناء تتّْبُعي لأبجديات "تفكيك الخطاب المتصهين" للدكتور أحمد بن راشد بن سعيد، حاولت إسقاط بعض المصطلحات المنهجية على تجربة الجزيرة ومهنيتها. بكل وضوح؛ لم أجد الجزيرة قط "تخفي الفاعل" كأسلوب إيحائي يميعُ الجريمةَ ويسجلُّها ضد مجهول.

لا تتعامل الجزيرة مع "الافتراض المسبق" كأداة تحويل الآراء والانطباعات إلى حقائق واجبة التصديق، ولن يرى المشاهد "تلطيف القبيح" في محتوى الجزيرة الإخباري، ولا "النبز بالألقاب والردح" في مواجهة الخصوم.
 

(5) منظومة الجزيرة
لا يخفى على متابعٍ حصيف، أن الجزيرة منظومة متكاملة من العمل والإبداع والرصانة وثبات الموقف. الجزيرة في نظري ليست عملاً فردياً أو مزاجياً، يتقلّْبُ بحسب الأشخاص والمراحل. ستجد اتساقاً وتناغماً في كل الأنشطة، حتى الرياضة التي أصبحت سمةً بارزةً لنجاحات الجزيرة، أصبحت وسيلةً للوعي والمعرفة لا لزيادة احتقان الجماهير. في الوثائقية مادة علمية حضارية تاريخية ضخمة ساهمت في تنويع روافد المعرفة لدى المشاهد العربي.
 

عملت الجزيرة مباشر على الوصول لكل تفاصيل الإنسان العربي، لم تكن معنيةً بالمونتاج والتهيئة لما قبل العرض، ولكنها وصلت لأدق تفاصيل الشارع، لهموم الناس ومشكلاتهم، للثائرين والمحاربين من أجل الكرامة في إدلب وحلب وحمص وغيرها.
 

(6) احتفال وعهد
انقضى عشرون عاماً على ميلاد الجزيرة. من حق الجزيرة أن تحتفل، فالاحتفال استفاقةُ فرح وانبجاسُ سعادة، بعد عملٍ مُترعٍ بالجدية والانضباط ودقة الهدف. شرطنا الوحيد، بعد الاحتفال: أن تبقى الجزيرةُ على العهد!.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.