شعار قسم مدونات

هل يوجد تخصص جامعي لا نحتاجه؟

blogs - university
في أحد خطابته، أشار الرئيس الأمريكي "أوباما" إلى تطوير مهارات تتناسب مع سوق العمل بدل الالتحاق بتخصص "تاريخ الفنون". لم يمض الأمر دون غضب من أهل التخصص، إذ أرسلت له البروفيسورة "آن كولينز" من جامعة تكساس احتجاجاً على ما قال ووضحت له أهمية هذا التخصص وما يقدمه للطلاب من مهارات، فرد عليها برسالة خطية يعتذر عما بدر منه من إساءة..!

هذه الحادثة تذكرني بعشرات المقالات والتصريحات التي تنشرها الصحف ووسائل الإعلام الأخرى حول ضرورة اختيار التخصص الجامعي الذي يتناسب مع سوق العمل ومتطلباته.. والحقيقة أنني أعترض بشدة على هذا المفهوم.

لا أعتقد أن هناك تخصص جامعي لا يحتاج له سوق العمل بل هناك مشكلات أخرى يجب معالجتها من أجل الاستفادة الكاملة من جميع التخصصات التي تقدمها جامعاتنا.

في كثير من الأحيان لا يتم التصريح بالتخصصات التي لا تتناسب مع سوق العمل إما بسبب الجهل بها أو من أجل عدم استثارة مشاعر المتخصصين من أهلها. وعلى كل حال لا يخفى على أحد أن المقصود هي مجموعة من التخصصات الأدبية مثل التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والتربية والشريعة واللغة العربية وغيرها.

وهنا أود أن أسأل: هل بالفعل وصلنا إلى مرحلة الاكتفاء التام من المتخصصين في هذه المجالات؟ هل تعتقد أن لدينا عدد كافي من الباحثين والمتخصصين في علم الاجتماع -على سبيل المثال- ممن يستطيعون تقديم رؤية واضحة ونصائح فعالة في مواجهة التغييرات المذهلة التي تمر بها مجتمعاتنا؟! هل أنت راضٍ عن أساليب التعليم المتبعة في مدارسنا؟ هل لدينا عدد كافي من متخصصي العلاقات الدولية الذين يمكنهم توضيح طريقة التعامل مع المتغيرات الدولية المقلقة من حولنا؟ هل تعتقد أن لدينا عدد كافي من المؤرخين رفيعي المستوى الذين يستطيعون قراءة التاريخ (الحديث وليس تاريخ الجاهلية!) واستخلاص عِبَره وتزويد القيادات السياسية وصانعي القرار بها؟ هل تؤمن أن لدينا علماء لغة كافيين من أجل تطوير اللغة العربية وإبقاءها على قيد الحياة أمام الهجمة الشرسة للحضارة الغربية ولغتها والعامية وانتشارها؟! لا أعتقد أن شخصاً قريباً من التحديات التي نواجهها يجيب بنعم أمام هذه الأسئلة.

قد يقول البعض: هذا يحتاج إلى تأهيل متقدم وحصول على درجات علمية متقدمة وأنا أقول: هذا صحيح ولا غرابة، فحتى خريجو تخصص الطب البشري ليس لهم فرص وظيفية جيدة إذا لم يكملوا دراساتهم العليا عبر الحصول على (البورد) أو (الزمالة) أو ما يعادلها، وأسألك بالله: هل تأخذ طفلك المصاب بمرض عضال إلى طبيب عام ليعالجه؟!

وحتى الخريجين الذين لم تتح لهم الفرصة للحصول على تدريب متقدم فإنهم إذا امتلكوا المهارات التي يبحث عنها السوق وأهمها: (مهارات الاتصال والتواصل والعمل الجماعي والتعلم والتفكير النقدي وحل المشكلات وغيرها) فلن يجدوا صعوبة في الحصول على عمل والتحول إلى أشخاص منتجين في المجالات المختلفة.

دعوني أوضح أكثر: لا أعتقد أن هناك تخصص جامعي لا يحتاج له سوق العمل بل هناك مشكلات أخرى يجب معالجتها من أجل الاستفادة الكاملة من جميع التخصصات التي تقدمها جامعاتنا، ودعوني ألخص ذلك في النقاط الثلاث التالية:

أولاً: الفرق بين المعارف والمهارات:-

مازال كثير من العاملين في تطوير التعليم الجامعي عاجزين عن التفريق بين تجهيز الطالب علمياً ومعرفياً وبين تجهيزه بالمهارات الضرورية للنجاح في سوق العمل والتي أصبحت (كالحبل والعصا) لمن يود صعود جبل وعر. دعونا نعترف أن خريجي هذه التخصصات جيدين معرفياً لكنهم غير مؤهلين بالمهارات المطلوبة لخوض سوق العمل والنجاح فيه. هذا ليس عيب التخصص بل عيب الإعداد والتهيئة وقصور طرق تزويد الطلاب بالمهارات المطلوبة.

نشر موقع "برنستون ريفيو" المتخصص في الدراسة الجامعية أن واحداً من التخصصات العشرة الأكثر رغبة في أمريكا هي "التاريخ والعلوم السياسية" والتبرير الذي ذكره المقال هو أن خريجي هذه التخصصات لديهم المهارات التي يحتاجها سوق العمل مثل (إدراك الواقع والمتغيرات، ومهارات الاتصال والعمل ضمن فريق والبحث والتحليل والتقصي والتفكير النقدي). لقد أعدتهم الجامعات بطريقة جيدة ولم تنشغل بحشو عقولهم بمعلومات وتواريخ لا تسمن ولا تغني من جوع. إن الحقيقة التي أود أن أقررها هي أنه لا يوجد تخصصات مطلوبة أو غير مطلوبة بل هناك خريج يمتلك المهارات المطلوبة وخريج لا يمتلكها والفرق بين الاثنين كبير..!

ثانياً: الطالب المناسب في التخصص المناسب:-
المشكلة الرئيسية في التخصصات التي توصم بأنها لا تتناسب مع سوق العمل هي أنها لا تستقبل في الأصل الطالب المناسب والمستعد للتميز فيها، فعلى سبيل المثال: يحتاج البراعة في تخصص (الشريعة) إلى ميول (بحثي) (أي الاستمتاع بمناقشة الأفكار والنظريات) وذكاء منطقي رياضي (قدرة على التحليل والتفكير المنطقي والنقدي). الطالب الذي يمتلك هذا الميول وهذه القدرة -في الغالب الأعم- سيلتحق بتخصصات الطب والهندسة بينما يلتحق بتخصص الشريعة من يمتلك ميول ومهارات أخرى مختلفة، وبالتالي ومع مرور الوقت يظهر على خريجي هذا التخصص الضعف وتنسحب السمعة على التخصص نفسه بشكل جائر!

التوظيف مسؤولية مشتركة بين المجتمع والتعليم والقطاع الخاص والطالب نفسه -وهو الأهم- والذي يجب أن يبذل جهدا أكبر في التعرف على سوق العمل ومتطلباته.

من المسؤول عن ذلك؟ نحن جميعاً مسؤولون عن ذلك، فنحن الذين نقاوم كل طالب مميز يود دراسة الشريعة أو تخصصات مشابهة لأنها تخصصات (ليس لها سوق عمل). هذا الموقف المتضخم في المجتمع حرم الكثير من الطلاب فرص التميز في التخصصات الأدبية. والغريب أن تجد هذا الموقف السلبي من أهل التخصص أنفسهم، ولا أنسى أحد الطلاب الذين يمتلكون السمات السابقة (وسمات أخرى إضافية) ونصحته بدراسة تخصص الشريعة وعندما قدّم إلى الكلية قال له مسؤول كبير فيها: (حرام عليك تدرس شريعة. أنت مميز، ليش ما تروح تدرس هندسة)..!
 

ثالثاً: التوظيف ليس مسؤولية الدولة:-
من الصعوبات التي تواجهها هذه التخصصات هو ضعف خريجو هذه التخصصات وعدم امتلاكهم للمهارات المطلوبة في سوق العمل كما ذكرنا سابقاً، وبالتالي ينظر أصحاب القرار للمتخرجين منها على أنهم عبء على الدولة، وبالتالي يتخذون منها موقفاً سلبياً. ولذا في الحقيقة لا يمكن أن نحرز تقدم في تعزيز موقف بعض التخصصات الجامعية غير المرغوبة إذا كنا مستمرين في حمل فكرة أن الدولة مسؤولة عن توظيف خريجي الجامعات. نعم! هذه ليست مسؤولية الدولة ولا يمكن أن يلومها أحد عليه بل هي مسؤولية مشتركة بين المجتمع والتعليم والقطاع الخاص والطالب نفسه -وهو الأهم- والذي يجب أن يبذل جهدا أكبر في التعرف على سوق العمل ومتطلباته من مهارات ويعمل بجد على تطويرها لديه من اليوم الأول لدراسته الجامعية.

تخيل أنه في كل عام يتم منح 66 ألف طالب في أمريكا درجة الدكتوراة. هل تعتقد أن الدولة ستقوم بتوظيف كل هذا العدد. لا أبداً .. بل يجب عليهم أن يبذلوا هم كل الجهد للحصول على وظيفة وفق قوانين السوق، ومن يخفق فهو المسؤول عن ذلك.

ختاماً: أكتب هذا المقال وأنا أستحضر عشرات الطلاب الذين درّبتهم، وقدمت النصح لهم ممن يمتلكون قدرات ومهارات تتناسب مع دراسة تخصصات أدبية نحن بحاجة لها، وكان لديهم رغبة عميقة لدخولها، ولكنهم حرموا ذلك بسبب العبارة الشهيرة: (هذه التخصصات لا تتناسب مع سوق العمل). باسمهم جميعاً أدعو إلى إعادة التفكير في تقييم هذه التخصصات ونظام التعليم الجامعي فيها وعدم الجور في حقها. وشكرا لوقتكم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.