شعار قسم مدونات

فنجان الدم

blogs - coffie

هناك في مدينة "الرمثا" على الحدود الشمالية الأردنية السورية ومنذ أن بدأت الأحداث الدموية في سوريا، ترتجف قهوتي كل صباح مع كل ضربة جوية، وأقرأ في كل موجة في فنجاني معاناة أطفال تحت الركام يحاولون الخروج ليصرخوا بأعلى صمتهم، وأرى وجوهاً مغبرة باليأس يشق خدودها أنهارًا من الدموع تغرق الأمل بالرحيل، على كتف الجبل المطل على درعا، ترى دخانا يتصاعد من بيت وأهله راحلون يختارون واحداً من طريقين، إما الموت وإما التشرد في أحضان الغرباء.

في الفنجان -سيدي القارئ- أرى كل ما لا تستطيع احتماله، أرى امرأة في ثياب السواد تتنشق الغبار وتخرج من بين الركام ممسكة بخمارها، تتشبث في حشمتها خوفاً من ربها، أرى طفلاً يهدم العمران بسكوته ويمسح تاريخًا من الحضارات عن جبهته الشقراء، أرى الشمس تستحي أن تشرق لترى جثثاً مرمية، أحس الآن برائحة الدم تنبعث من فنجاني وأنا أرى ما تراه الشمس كل صباح في فنجاني المرتجف.

في أحشاء المؤتمرات الدولية، لم تخرج سوريا عن نطاق "زوبعة في فنجان"، ومجلس الأمم المتحدة لا يزال يعيش حالة من القلق

وإن أردت -سيدي القارئ- أن تمسك فنجاني لن تستطيع حمله، فهو مُكدّرٌ بثقل البن ومرارة الطعم، فهي كالشعب حين غليتها في الركوة تتخابط بين قعر المؤامرات وسطح التقسيمات، يتبخرون بلا أثر ويبقى العار في جدران الفنجان علامة لوجوه تجاهلت حق انسان بسيط بالحياة، تقرأها عجوز من الذكريات.
 

يا من تحملين طفلكِ في بحر لُجِّيٍ، لتلجئي، ها هو الطفل ارتاد بحراً وأصبح قبطاناً على شاطئ الحرية، ها هو مستلقٍ تلعب وجنته بالرمال ليصنع بيتاً يأوي إليه، ها هو يدير وجهه للعالم بأسره ولا يأبه لأي منهم، يعلم جبابرة العالم كيف يكون جالساً على عرش هش من الرمال ويهز المحيط بجزر أنفاسه ويطلق ألسنة نار من الكلمات، يحدث جميع لغات العالم عن اسمه.

أما عن الاعتياد، فهو الذي يعيش بلا ضوء، ينير كتابه ببعض من شموع لا تنتهي، وهو الذي يصدر جواز سفر يحلق لمنطقة قريبة ويأخذ الأمان مقابل المال ليتحصل على شربة ماء من هنا وهناك. هو الذي يستمع إلى الأخبار ويراها كحدث أمامه كأنه الشاهد الغائب، وهو الذي يرسم على وجوه عائلته ملامح رجولية، ليحفظ ماء وجهه وشرفه، فالمال هو الأرخص في هذه المقايضة الظالمة.

أغمض عينيك -سيدي القارئ- وعش لحظة بين الحطام والأشلاء، أو في بيت شامي قديم تنتظر مصيرك في أي وقت، أو بين أناس، لا تعرفهم، تركض نحو حد الحرية ونهاية الظلم وبداية التشرد، تخيل أنك في الضياع تبحث عن طفل وحيد لك، أو تعتصره بين أحضانك خوفاً من رصاص أو شظايا قنبلة أو مدفعية دبابة عمياء.

وفي أحشاء المؤتمرات الدولية، لم تخرج سوريا عن نطاق "زوبعة في فنجان"، ومجلس الأمم المتحدة لا يزال يعيش حالة من القلق، ولا تتأمل -سيدي القارئ- شيئاً من الدول الكبرى يهدد مصالحها حتى لو كان معنوناً بالدم.

قد مللت صراحة من بن قهوتي، فقررت الرحيل لأبقى صامتاً، وتعتاد أوراقي أن تبقى فارغة

أيها المحللون والكاتبون والناشطون، عذراً فكلماتكم لم تجرِ أي تعديل، ولم تحسن الوضع، فاحتفظوا بها لأنفسكم، هناك من يقرر مستقبل سوريا وهناك من يبني وطنه ومصالحه على أراضيها، هناك الظالم الذي توجهه ثورة من نوع آخر، سأغتنم الفرصة لأهنئ "بان كي مون" على قلقه الدائم وانجازاته في تصعيد الأزمة.

لا أرى إلا أن أواسي فنجاني ببعض من الرشفات، أتجرع فيها طعم الهزيمة والعجز أمام ما يمكن فعله، أتحسر على ماضٍ من الخسارات الفادحة في وجه نظام دولي فاشل يحمي مصالحه على حساب براءة الأبناء، وطهارة الإنسانية، ووراءها قيادات دموية.

أيها الإعلام الأعمى، توقف من فضلك عن تجاوز العار الذي تسطر في التاريخ، وعن تبرير مواقف لا يوجد لها أساس من الصحة، لقد مللت صراحة من بن قهوتي، فقررت الرحيل لأبقى صامتاً، وتعتاد أوراقي أن تبقى فارغة، لكن، أرى لمعة في عيني، وصراخاً سيتفجر بالأمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.