شعار قسم مدونات

الدين الراديكالي والبراغماتي

blogs - Muslim girl
من المعلوم أن الدين ضمن حق العباد جملة، من حيث التعبد والاعتقاد، وضمن ما من شأنه أن ينمي فكرهم، وملكية هذا كله من حيث الاعتبار هي: ملكية من حيث الخصوص أي أن الدين يتقرب فيه إلى الله، وكذا الإعتقاد، وكذا الفكر، وكذا الجسد (الروح)، أودعت في الشخص الذي يوجه بالإرادة باعتباره مؤهلا. ومع اكتسابه تلك الأهلية فقد أصبح في غمار الحرية، ومع النظر العميق لموضوعي الحرية والدين تجد ألاَّ تضاد بينهما ولا تعارض. والتنظير العقلي الصحيح مآله أنه لا يمكن أن تكون نتيجته اللامبادئية واللاقيمية.
 
بذريعة الحريات المطلقة غير الموجهة عادة كثيرا ما نسمع عن التصلب العقائدي والأصولية الفاشية التي تسعى وتهدف في أصلها إلى الإصلاح، وهي غاية ثمينة من حيث المآل، ووسائلها لا تدل على ذلك مطلقا، وقد يبرر هذا لهم أن الغايات ثابتة والوسائل متاحة ولو عن طريق الإرهاب الفكري، أو الممارسة التطرفية؛ وهذا كله يعود لإيجاد بيئة الأصولية التي تعتمدها الراديكالية كمرجع أصيل للإصلاح.
وفي المقابل كنا لا نفتأ عن سماع تقديم المصالح بصرف النظر عن الأيدلوجيات والتوجهات، وهي من حيث هي ربط التنظير بالتطبيق، وهذا لا يعتمد على الأيدلوجيات أو التوجهات مطلقا، إنما نتاجه هو المنفعة ولا غير، بصرف النظر عن الوسائل. فهم لا يرون المقدس أبدا إنما يتوجهون في أرائهم إلى الحريات المطلقة مع رفض أن تكون مثالية إلى حد بعيد.
بينما قد يتساءل البعض: الراديكالية هي نهج سياسي فما علاقتها بالدين؟.. ويتساءل الآخر عن أن البراغماتية هي نهج سياسي من حيث هي فما علاقة هذا بالدين؟

المنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ولم ينفعهم إسلامهم، وهذا لا يعود في حقيقته إلى أن الدين بمنظومته لابد أن يتوافق مع الأهواء والأذواق المختلفة اللامتناسقة في معظمها والتباين الذي نجده بين الدين والممارسة التدينية الشكلية

فنقول إن الانتهاج السياسي الذي ينتهجه البشر ما هو إلى جزء من طبيعة التكوين الإنساني، إذ البشري محاكم لتصرفاته كما لا يخفى على كل عاقل، وهذا إذا ما اعتبرنا أن الراديكالية والبراغماتية جزء من ممارسات الإنسان تتحرك من خلال الوسائل وتفضي إلى المآلات، وهذا تكوين أنثروبولوجي طبيعي، ولكن هذا لا يُلغي فكرة محاكمته؛ لأن الحريات تجد أنها عبارة عن جملة من الواجبات وجملة من الحقوق، فقيمة الحق لا تختلف عن قيمة الواجب. فلو سألت أي عاقل هل يجوز لك أن تقتل أي إنسان في مقابل حريتك، سيقول لا، فإذًا تجدها مهما اتسعت ضاقت، ومن حيث التنظير الديني الذي يتحقق من خلاله مفهوم الحرية وتوجيه ذلك يكون بحفظ الضرورة مكانا. فقتل النفس مناف للحرية لاعتبارها ليست ملكا ولا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذن مسبق منه، وإذهاب العقل ليس حرية، وهي مقيسة على الأولى لاتحاد العلل ولما فيه من إهانة لتلك الحرية المقدسة. فضمنت العقل باعتباره عنصر المعرفة ومفادها، وضمنت الروح باعتبارها عنصر المعتقد والتعلق، وضمنت الجوارح باعتبار العمل فأعطته حقا ونزعت منه واجبا.

ومن هنا قال البعض براديكالية الدين على اعتبارية أصوليته. مقارنة بالثيوقراطية، والثيوقراطية اعتمدت رجال الدين أصلا للتحليل والتحريم، فالقياس هنا مع الفارق، لأن الدين يرفض الرهبانية، وأن يتكلم الإنسان محض افتراء فينصب نفسه آلهة الأرض ناطقا عن آلهة السماء ظانا أن الله ينتشي بفعله.
 
فيقول البعض إذا على هذا فالدين نفعي، فنقول نفعية الدين ليست ذاتية من أجل الدين بل هي قائمة على النفعية للإنسان؛ لأن مركزية الخطاب هي المصلحة، والمصلحة أصل عائد على الذات عادة وليس على أصل الخطاب. وإذا ما قورن الأمران بالدين اقتضينا التطرف في جانب الراديكالية، والنفع بصرف النظر عن أصله فيما يخص البراغماتية. وكلا الأمرين هما محل نظر في مآلاتهما، فواقعية التدين الراديكالي التي أصبحت تنظر بمنظور الأصولية المتصلبة وأن الدين بمعطياته لا يقبل المرونة في خطابه مع اعتبار أن الخطاب في ذاته يعني المخاطب، فلابد بالضرورة أن يتناسب معه ويتلاءم ويتناغم مع طبيعته، وإلا فإن مثالية الدين بخاطبه الموجه لا تعني المكلف مطلقا، ومع كون الراديكالية هي من فلسفة السياسة الباحثة عن موطن لخصوبة الجور والظلم، غير أنني بت أنظر إلى أننا بتديننا الذي يسير وفقا للامنهجية الدينية وبعيدا عن التأصيل الحقيقي نكون وافقنا الراديكالية بنتاجها، وأعني ما أقول بالتدين، فالتدين هو عبارة عن الممارسة التي قد لا تراعي في أصلها التغير الحضاري، فقد تكون الممارسة مصاحبة لفترة تاريخية متخلفة، إرساؤها على الواقع ينتج تطرفا بلا مثنوية أبدا، فلذا تتحقق مثلبة الراديكالية الدينية باعتبار وسائل الخطاب لا في أصل الخطاب فقد كان الخطاب ولا زال مرنا أكبر من التوجهات التي تحتمل الخطأ في معطياتها. وكذا البراغماتية الدينية فهو التوجه المصلحي الأكبر من الدين، فالأكبر من الخطاب لا يشمله الخطاب حتى يقترن به، وإن كنا لا نتفق على أكبريته أصلا.

أن نجعل راديكالية بعض المأدلجين مسوغا لانتقاص الدين نقول هذا لغط ينبغي أن يترفع عنه كل منصف

وميزة الدين أنه يعتمد على الثوابت بكل معطياته، وإذا ما صغتها بفلسفتك ستجد أنه المنظومة الثابتة المتناسقة التي تكون معيارا رئيسا لضبط منظومة الممارسات الإنسانية، والتباين الذي نجده بين الدين والممارسة لا يعني بالضرورة شروخية الدين، بل هي إفراز لانحطاط يصوغه صاحبه بجعل الدين متمثلا بممارسته وينتج عنه اتهامية للدين.

ووجه التشريع الإلهي مستلزم بحقيقة الالتزام بين الإفراط والتفريط وهو نظرية "التوسط والاعتدال"، وهي بمنطقها العقلي ما يتناسق وينسجم في حقيقته مع ممارسات الإنسان، حتى لا يكون التناقض والتضاد قانونية الدين ومنظومة الممارسة.
وبين معيارية الدين والتدين الثابت في المنظومة الدينية والمتغير والمغالي في حقيقة الممارسة التدينية ثمة الفروقات الجسيمة، فالممارسة في حقيقتها وتبيانها ليست مسوغا لانتقاص الدين الأصيل أبدا، فالمنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ولم ينفعهم إسلامهم، وهذا لا يعود في حقيقته إلى أن الدين بمنظومته لابد أن يتوافق مع الأهواء والأذواق المختلفة اللامتناسقة في معظمها والتباين الذي نجده بين الدين والممارسة التدينية الشكلية.
وبين هذه وتلك نريد أن نجد نقاط الالتقاء بين الثابت والمتغير. فالثابت يسع المتغير بلا شك في هذا، ولكن النقيض غير متصور أصلا حتى نقول باحتماليته. وكل في نهاية المطاف يخضع لميزان الخطاب لاعتبارية مصدريته. فأن نجعل راديكالية بعض المأدلجين مسوغا لانتقاص الدين نقول هذا لغط ينبغي أن يترفع عنه كل منصف، وأن نقول أن الدين يشمل البراغماتية فنقول ليست البراغماتية التي تريدون أنتم بأن نجعل الدين مطوعا للغايات الإنسانية بصرف النظر عن مبادئها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.