شعار قسم مدونات

مكالمات من طرف واحد

blogs - phone

في حياة كالتي نعيشها، حيث القتلى بالمئات يومياً في شتى بلاد العرب، لم يعد بإمكان الكثير من الأحداث أن تبكينا، ربما صارت قلوبنا قاسية، أو عيوننا متحجرة، لكنني لم أقاوم خروج الدمع وأنا أستمع لأحد البرامج الإذاعية المخصصة للتواصل مع الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

معظم محطات الإذاعة المحلية في الضفة الغربية تخصص برنامجاً أسبوعياً للتواصل مع الأسرى، والواضح أن هناك استخدامين رئيسيين لها، الأول في نقل الأخبار المتعلقة بالأسير، مثل تطورات المحاكمة، دفع الغرامات، الأخبار الواردة من المحامي، وغيره.. والاستخدام الآخر هو نقل المشاعر والعواطف من أبناء العائلة، خصوصاً أن أي فرد من أفراد العائلة قد يكون عرضة للرفض الأمني الذي يمنعه من زيارة قريبه الأسير، ومن الوارد جداً أن يكون المرفوض الأمني هو طفلة في الثانية من عمرها!

تستمع لهذه المكالمات ولغيرها، وتدرك أن هناك قرابة 10 آلاف أسير، لكل منهم قصة وحكاية تشمله وعائلته أيضاً.

"أنا إم الأسير فلان الفلاني من جنين، أهدي سلامي لابني المعتقل في سجن مجدو ومحكوم مؤبدين وأربعين سنة وبحكيلو الفرج قريب يمّا، مبارح يما كان عيد ميلادك وإجو صحابك سامر وأسعد وأبو سليم، وعملولك حفلة يمّا..
آييي ويا دار الفرح بعيدو هنيييه 
آييي والورد زاد عمرو سنة ربي يخليييه
آييي و100 سنة يا رب كمان أعطيييه
يعيش ويبقى زينة لهالكون تاج على راسي أعليييه
لولولوليييي".

"أنا زوجة الأسير فلان الفلاني من نابلس، أهدي سلامي لك يا أبو محمد، وإن شاء الله الفرج قريب إلك ولكل الشباب الصابرة، وإن شاء الله بترجعلنا بالسلامة يا غالي، وبحب أحكيلك إنو دفعنا مصاري الكنتين لهذا الشهر، واليهود رجعوا كل الملابس اللي حاولنا نبعثها مع الصليب الأحمر، إن شاء الله بدنا نحاول نبعثها مع جماعة من قرية قضاء رام الله ابنهم معتقل معك في نفحة".

"أنا شقيق الأسير فلان الفلاني من يطا -الخليل-، أهدي سلامي إلى أخوي المعتقل في سجن إيشل، وبحكيلك هان الوضع يا خوي، وإن شاء الله راحوا 15 سنة و10 شهور، وباقيلك شهرين وبتكون بينّا، وبحب أحكيلك إنو خالك أبو السعيد حلف يمين إلا يكون غداء حريتك في داره يوم خروجك بالسلامة. يا خوي، إذا لازمك إشي ابعثلنا مع سمير ابن أبو العبد لإنو إفراجو الأسبوع الجاي، واحنا لسا ما طلعلنا تصريح زيارتك"!

تستمع لهذه المكالمات ولغيرها، وتدرك أن هناك قرابة 10 آلاف أسير، لكل منهم قصة وحكاية تشمله وعائلته أيضاً، وفيها تفاصيل كبيرة وصغيرة لا يدريها إلا الدائرة المحيطة به.

أي عيد يا أم الأسير، وابنك محكوم بمؤبدين وأربعين سنة، ما يعني أن المجموع لا يقل عن 90 سنة من الاعتقال! أي أمل محتفظة فيه بداخلك؟
وأنت يا زوجة الأسير، كيف لخصتِ كل معاني الحب في أقصى ما يسمح به القاموس الاجتماعي بعبارة "يا غالي"؟!
تستمع لمكالمات أخرى وتتساءل يا ترى، كيف تنتقل عواطف العلاقات الثنائية عبر موجات الراديو من هنا إلى هناك؟
يا ترى، كيف يكون حال الأسرى وهم متجمعون على موعد كل برنامج من هذه البرامج في غرفهم وخيامهم؟ 
ومع وصول الحزن إلى حده الذي لا يطاق تتساءل، هل تنطق ألسنتهم بالرد عندما تسأله ابنته الصغيرة "كيف حالك بابا"؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.