شعار قسم مدونات

العلاج بالمرض!

blogs - هدم

هل صادفت أن زرت الطبيب على أمل العلاج من مرض ثم وجدت أن وسيلة هذا الدكتور في علاج مرضك هي إعطاؤك مرضاً آخر قد يفوق ما جئت من أجل مداواتك منه؟ مؤكد أنك لم تصادف، لكن دعني أؤكد لك أن هذا نعيشه نحن العرب كلنا -أو جلنا على الأقل-، ليس عند الطبيب، لكن عند من مرضه أفتك، عند من يصنع نظم "التنمية" بمختلف قطاعاتها، سأسوق ما أراه دليلي في هذا، وسأختار الجزائر -بلدي الحبيب- أنموذجاً في ذاك.

لنبدأ من الاقتصاد، منذ نهاية القرن الماضي بدأت الجزائر -كما دول عربية عديدة- فترة "ترف مالي" صنعها الارتفاع الفاحش في أسعار النفط، امتلأت الخزينة العمومية بالدولارات ففكرت الحكومة في دعم الاقتصاد وإخراجه من "مرض" معدلات النمو المتدنية.
 

المنظومة الموجودة أصبحت لا تحقق "الهوية المنتجة"، بل هناك من قال أنها تتعارض معها أصلاً، فكروا في الحل، فأنتجوا علاجاً هجيناً.

فكرت الحكومة في الحلول واستقر العلاج في الأخير على وسيلة الاستيراد، وبدأ "علاج" النمو، تضاعفت الواردات بعد ذلك في عقد فقط ستة أضعاف لتقفز من 11 مليار دولار إلى 66 ملياراً!، لكن ماذا حدث بعدها، خارت على إثر ذلك صناعات وطنية عديدة نتيجة المنافسة الشرسة من المنتجات الخارجية، انهارت صناعات النسيج والجليد والصلب وغيرها، ها قد عالجنا مرضاً بمرض أدوم وأفتك!

بعد ذلك، وبمجرد أن انخفضت أسعار النفط وتهاوت معها موارد الحكومة فكرت هذه الأخيرة في علاج لهذا المرض، لنختر الوسيلة إذاً، إنه القطاع الخاص، لكن أي قطاع خاص؟

إنه قطاع خاص "مسيس" يعتمد في سيره وأكله وشربه على الإنفاق الحكومي!، قطاع مؤسساته "الكبيرة" عاملة في مجالات الأشغال العمومية والنقل العمومي!، قطاع استطاع بـ"حنكته" أن يتخذ قراراً يضحك كل من يعرف ولو القليل في مبادئ الاقتصاد، لقد اتخذ قرارا بالمشاركة في تمويل المشاريع العمومية عن طريق القرض السندي، أقرض الحكومة بمعدل فائدة تقل عن معدل التضخم يا سادة!، إنه علاج الركود بركود وعجز، العلاج بالوباء.

لننتقل إلى القطاعات التي من المفترض أن تنتج الموارد البشرية، قطاعي التربية والتعليم والتعليم العالي، في قطاع التربية والتعليم، توافقنا أن المدرسة هي صانع أساسي -ليس الوحيد- للهوية، وأن الهوية عامل إنتاج اقتصادي واجتماعي وسياسي، توافقنا أيضاً على أن المنظومة الموجودة أصبحت لا تحقق "الهوية المنتجة"، بل هناك من قال أنها تتعارض معها أصلاً، فكروا في الحل، فأنتجوا علاجاً هجيناً.
 

لقد أنتجوا برامج تفرق صراحة بين العرب وغير العرب، برامج تعترف بإسرائيل على غير ما جرت به القوانين والأعراف الوطنية، برامج هدفها إذكاء التطرف ضد الدين رغم أن كل العالم أصبح متيقناً أن الجانب الروحي مركب أساسي في الهوية -واسألوا اليابان في ذلك إن أردتم-، إنه العلاج بالمرض هنا أيضاً.

في قطاع التعليم العالي ظهرت بقوة مؤخراً "آلام" عدة يجب معالجتها، ألم باحثي الدكتوراه مثلاً، الذين يفرض عليهم القانون نشر بحث علمي واحد على الأقل في مجلة محكمة ليتسنى لهم مناقشة أطروحتهم، وجد أكثرهم مشكلة في نشر أبحاثه، وبدل التفكير في توسيع مساحة تثمين البحث العلمي وزيادة المجلات المحكمة، طلع علينا "أهل شورى" يقترحون علاج المرض بإلغاء إلزامية نشر المقال أصلاً، هذا "العلاج" لم يفعل للآن لكن "أطباء" كثر يسعون لتفعيله.

في هذا القطاع -التعليم العالي- يمكنك اقتراح أي علاج لتطوير البحث العلمي إلى العلاجات التي تحاول ربط تطوير البحث العلمي بتشجيع الأستاذ على البحث، لو أنك تقترح مثلاً أن يربط أجر الأستاذ -أو جزء هام منه- بمحصوله العلمي السنوي ستكون محل شبهة، أنت بالمختصر لست طبيباً إن تفعل.

قطاع الرياضة هو الآخر اشتكى الأمراض، بطولة كرة القدم -مثلاً- عليها أن تخرج من ضيق الهواية إلى سعة الاحتراف، لنسلم الفرق الرياضية إلى متعاملين خواص، هذا هو العلاج المناسب، لكن ماذا بعد؟
 

تمنيت لو أن الطبيب فعل، يا ليته عالج بالمرض واقتصر الأمر عليه فقط، لو كان الأمر كذلك كان سيمرض ويموت أفراد فقط!

بدأت البطولة المحترفة، لكن بدل أن تنتج مؤسسات رياضية تدفع ضرائب للدولة أنتجت "عصابات مؤسساتية" تنهب المال العام مباشرة عن طريق إعانات الحكومة والجماعات المحلية أو بطريقة غير مباشرة عن طريق تمويل رجل الأعمال للفريق مقابل حصوله على مشاريع وامتيازات، أليس هذا علاجاً بالمرض؟

البطولة المنحرفة هذه كما يحب الكثير تسميتها أنتجت إلى جانب ما ذكرنا مزيداً من الشغب، إنه مرض فتاك حاولت الدولة علاجه بإبعاد الشرطة عن الملاعب!

لننهي أدلتنا بقطاع الإعلام، وأعلم أن الأدلة لو يترك لها القلم سيجف ولن تنته، لقد عانى هذا القطاع مؤخراً من مرض جديد تمثل في تكاثر المؤسسات الإعلامية وعملها من دون تراخيص قانونية، ما العلاج يا ترى؟ العلاج مؤكد أنه لن يكون تغيير قوانين الاستثمار والإعلام لتشجيع بيئة حاضنة لقطاع إعلامي خاص قانوني ومرخص، العلاج سيكون بتشميع من يريدون إزالته باختصار.

تمنيت لو أن الطبيب فعل، يا ليته عالج بالمرض واقتصر الأمر عليه فقط، لو كان الأمر كذلك كان سيمرض ويموت أفراد فقط!، عشرة أو ربما مئة أو يزيد قليلاً، لكن العلاج بالمرض شعار اتخذه للأسف من يفترض أن الوطن بأيديهم، إنهم يقتلوننا وباءً في كل ناحية وحين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.