شعار قسم مدونات

الإسلام السياسي وموسم الهجرة إلى التراث (1)

blogs - islam
ذكر الدكتور محمد عابد الجابري مقولة مفصلية في فهم ظاهرة الإسلام السياسي والقراءات الحداثية للتراث وهي أن "القارئ العربي مثقل بحاضره مؤطر بتراثه"، ويشرحها الدكتور عبد الغني عماد أنه مثقل بحاضره، أي أنه يطلب السند التبريري من تراثه، ويقرأ آماله ورغباته فيه، هو يريد أن يجد فيه المنهج العلمي المعاصر والديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.

أي كل ما يفتقده في حاضره سواء على صعيد الحُلم أو صعيد الواقع "نجد القارئ العربي عند القراءة يسابق الكلمات، بحثاً عن المعنى الذي يستجيب لحاجته، يقرأ شيئاً ويهمل أشياء، فيمزِّق وحدة النص ويحرق دلالته، ويخرج به عن مجاله المعرفي التاريخي، إلى حلول سحرية لمشاكله الملحة في الواقع السياسي والاجتماعي".
 

الفحص الدقيق يظهر محاولة الإسلام السياسي للهروب من التراث بتلبيسه حللا حداثية حتى يواجه تحديات الواقع المعاصر.

ولذلك تكون قراءته للنص مشتتة ممزقة، يبحث فيها عن معنى وحيد، وهو المعنى الذي يستجيب لتحقيق حاجته ورغباته، فيخرج النص عن دلالته المعرفية ويحصره، والقارئ العربي المعاصر يعيش تحت ضغط الحاجة إلى مواكبة العصر، وبهذا يكون قد حَمَّل النص ما لا يطيق احتماله.
 

وهذه هي السمة الأساسية لقراءة الإسلام السياسي للتراث، محاولة الهروب للحداثة بتلفيق الوقائع التراثية على ثوب المعاصرة، مثل الكتابات التي قدمها العديد من مفكري هذه المدرسة -مدرسة الإسلام السياسي- مثل الدكتور حسن الترابي وراشد الغنوشي في نسخته القديمة والصادق النيهوم وحسن حنفي، والمعاصرين مثل محمد بن مختار الشنقيطي.
 

وقد يبدو في ظاهر الأمر أن الإسلام السياسي يدعي لنفسه فكرة العودة للأصالة ورفض المعاصرة التي تسلم بتفوق حضاري للغرب ومنتجاته الفكرية، "فالهوية كما يعرفها جاك لاكان تبدأ بسؤال ماذا يريد مني الآخر؟"، ولكن الفحص الدقيق يظهر محاولة الإسلام السياسي للهروب من التراث بتلبيسه حللا حداثية حتى يواجه تحديات الواقع المعاصر.
 

ولكن تكون النتيجة هي الفكر المشوه، الذي لا ينتسب للحداثة وروحها ولا للتراث في حقيقته التاريخية، إن سمة الإسلام السياسي هي هذه القراءة للتراث، فهو لا يملك مشروعية في داخله إلا ادعاء الأصالة، ولا يملك حلا سحرياً دون الحلول الحديثة، ومن هنا يبدأ التزوير!

 
ذكرتُ علي شريعتي في مقالي الأول العودة إلى الذات، وأنه لا يعود في حقيقة الأمر إلا للآخر في ذاته! سأُعرج في هذه التدوينة على نافذة العودة المشروطة إلى الذات، والتي تسعى لقراءة حداثية للتراث، لا أقصد بالتراث هنا وحدة فكرية أو اجتماعية معزولة مثل مكون الدين، بل أقصد بالتراث هنا هو المحمول الثقافي الكلي الذي يتشكل في القالب الديني، تحديداً لأنه العنصر الذي يحمل عنفوان أكبر في الكل الثقافي هذا.
 

فالأمة العربية لم تكن ذات حضارة قبل الإسلام، ولم يكن من سمة الحضارية مميزة، مثل اليونانيين الذين تميزوا بالنظر العقلي التجريدي والرياضيات والفلسفة الأخلاقية، هي أمة أخرجها النص إلى الوجود، وتعتقد أنها لا عودة لها لمسرح الحضارة إلى عبر ذات البوابة !

أبدا بمقولة لرائد الاشتراكية المصرية سلامة موسى حيث يقول: "إن أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة: عودوا إلى القدماء".
 

هذه المقولة تمثل جزءً من موقفي من قراءة التراث، وهو رفض قراءة التراث قراءة حداثية مفتعلة، وكذلك رفض القراءة السلفية للتراث التي تغفل أمراً بسيطاً وواضحاً هو أن التراث ابن شرعي لوضعيته التاريخية ممثلة في عنصر الاستيعاب الثقافي ومحددات الوعي الإنساني الزماني أو ما يمكن بتسميته "تضاريس الزمان والمكان".

لكن هل ندعو إلى محاربة القدماء والمكافحة العنيفة لإرثهم؟ الجواب هو لا، بل ندعو لمحاربة ومكافحة محاولة إحيائهم المزيفة وإلباسهم لباس الثقافة الجديدة والتي تسيء لهم ولأمجادهم وتسيء للثقافة الجديدة نفسها، فكما أن كرامة الإنسان في دفنه فكرامة الفكرة الميتة دفنها. 

كما أني لا أدعو لقراءة حداثية للتراث، لأنه محاكمة له في محكمة جائرة تستند لتقدم إنساني طرأ على الواقع، مثل محاكمة المدنيين الأبرياء التي تتم في محاكم عسكرية لا يملك فيها المدني حق الدفاع عن نفسه! محمد عابد الجابري المفكر الإسلامي الكبير هو نموذج لهذه العودة إلى التراث بغية فهمه فهماً تاريخياً موضوعياً وبنيوياً، وتحليله بالأدوات التحليلية الحديثة لتجاوزه نفسه وافتتاح عصر جديد انطلاقاً من التراث، بحيث لا يشعر الوعي العربي الإسلامي بشعور التغريب المريع في تقبله للأفكار الحديثة.

والآلية التي يعتمدها الجابري باختصار هي "آلية الوصل والقطع" مع التراث، يقول الجابري في كتابه نحن والتراث: "بأن التراث يجب أن نجعله معاصر لنا، و يخدم إشكالاتنا الحاضرة ولا نعيش نحن فيه، فإلغاء التراث لا يمكن إلا بتحقيقه، وتحقيقه لا يمكن إلا بنفيه، وهذا هو معنى الوصل والفصل عند الجابري".

وكما يقول أيضاً: "نحن نعتقد أنه ما لم نمارس العقلانية في تراثنا وما لم نفضح أصول الاستبداد ومظاهره في هذا التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة "العالمية" كفاعلين وليس كمجرد منفعلين، هذه هي الهجرة المطلوبة التي يتطلبها مشروع بناء وعي عربي إسلامي معاصر بالحداثة".

كما يموت الإنسان، فكذلك الأفكار هي أيضاً بنت بيئتها ولها نسب وقرابة وحياة محدودة في الفضاء الزمني مثل الإنسان، الفكر يموت كما الإنسان هذه هي الحقيقة!

إن مشروع اللحظة التاريخية بالنسبة لعالمنا العربي الإسلامي هو مشروع توطين أدوات الحداثة ممثلة في نموذجها المعرفي وأدواتها كالمنهج العلمي وروحها النقدية وتقليدها الفلسفي التحليلي، وهذا مشروع لا ينبغي له أن يكون نخبوياً كما يقول الجابري نفسه رداً على عبد الله العروي الذي لا يهتم في مشروع التحديث إلا بالنخبة ونخبة النخبة: "فأي ثوري هذا المثقف؟ من أين أتت ثوريته: من الكتب؟ من التأمل؟ من التعالي؟ من العالمية؟ من الانعزال عن الجماهير؟!".

من ثم علينا الهجرة إلى التراث بغية قراءته قراءة نقدية وليس حداثية بمعنى تزويره وتحميله ما لا يحتمل، كما هو مشروع حسن الترابي أو حسن حنفي أو الصادق النيهوم أو الكتابات الحديثة لمحمد بن مختار الشنقيطي، بل بتوطين روح الحداثة نفسها في الوعي العربي الإسلامي، وهذا وحده كفيل بحرب تدور في الوعي الجمعي لا تبقي ولا تذر شيئاً من الأفكار الميتة والمميتة.

إن الإسلام السياسي لا يقبل بسنة الله في الكون والوجود وهي "الموت"، الناموس الثابت الذي يقهر الكائنات والموجودات والأحياء كلهم، فيرفض ناموس الموت "الفكري" الذي سنه الله كذلك على الأفكار والمعطيات العقلية عموماً! الموت كناموس يأبى الانفصال عن كونه ناموس يحكم الوجود بشقيه البيولوجي أو الحيواني والفكري.

فالفكر يمكن النظر إليه كجسد حي، تسوده روح متصلة مع مكونات أدق مثل المعطيات الواقعية والفرضيات النظرية، فكما يموت الإنسان في متوسط ستين عاماً مثلاً، فكذلك الأفكار هي أيضاً بنت بيئتها ولها نسب وقرابة وحياة محدودة في الفضاء الزمني مثل الإنسان، الفكر يموت كما الإنسان هذه هي الحقيقة! نواصل المقال القادم بتقديم الشيخ المرحوم حسن الترابي كقارئ عربي مثقل بحاضره ومؤطر بتراثه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.