شعار قسم مدونات

عمّان .. ليتني لا أشتاقك!

blogsعمان

لم أكن أتخيل يوماً أن دمعة قد تذرفها عيني وتجري مجرىً متحرّق الشوق على خدّيّ حين أتخيلها.. ولم أكن يوما أتخيّل سعادة بالقدر الذي أراه كلّما أغمضت عيني متخيلة شتاءها!

لقد أوجعتني مراراً، حتى أفقدتني صبري، فدعوت الله أن أفارقها وأنساها، فاستجيب دعائي.. واليوم يوجعني فراقها!

عمّان.. ليتني لا أشتاقك!

كيف لا أشتاق لضبابها المخيف ومطرها الغزير وهواءها النقيّ؟ كيف لا أشتاق لضوضاءها وزحمتها والفوضى التي ملأتها

فلرائحة طعام أمّي ومذاقه، نكهة لن تتكرر ولن يشبهها نكهة ولو قضيت عمراً أحاول أن أستشعرها وأستحضرها.. لن أجدها سوى في قِدرها! ولحضنها الدافئ كينونة أخرى تأخذني نحو كوكب آخر من الحب اللامشروط.. ذاك الحضن الذي كان يبعد عنّي بضعة كيلومترات، فكلما احتجته هرعت نحوه ووجدته

ولصوت أبي رنّة لا تشبه أي رنّة.. ذاك الصوت العذب الذي كنت أسمعه حين أراه.. وكنت أسمعه عن بعدٍ قريب! وليس صوت أسمعه اليوم عبر السمّاعة وأحتسب معه الدقائق!

ولتلك السهرات مع أختيّ نكهة لا تشبه أي سهرة.. سهرة أذكرها كلّما جالست وحدتي.. تلك السهرات المليئة بالضحكات والهمز والهمس والمزاح وحتى الجدّيّة

ولمشاوير كنا نقضيها أنا وزوجي كلّما مللنا بعد منتصف الليل، فنكتفي ب"لفّة" في السيارة ونعود منظور اخر للسعادة!

ولرفقة صديقات في المقهى وللهفة نحو مكان بعيد التقي به صديقة مقرّبة تحت البرد والمطر كانت أحب الي من الدفء الذي استشعره وحدي بعيدا عن أحاديثنا وحواراتنا

وكيف لا أشتاق لضبابها المخيف ومطرها الغزير وهواءها النقيّ؟ كيف لا أشتاق لضوضاءها وزحمتها والفوضى التي ملأتها!

كيف لا أشتاق لطبق من الكنافة ولكوب من السحلب ولإبريق من الشاي ولعشاء حول المائدة على طبق من الزعتر وقطع من الجبنة وكرات من اللبنة ولجلسة حول التلفاز أو لتجمّع عائلي على ال"بلكونة" أو في باحة منزل أحدهم؟

لطالما حلمت بتحقيق مرادي لأهرب بأحلامي بعيدا عن عمّان، ولأجد ما وجدت فعلاً.. الحضارة والتطور والجمال والراحة والأمان والطموح والتقدير والجمال والتغيير.. ولكنني لا زلت أشعر بتلك الوحدة الدفينة في زاوية من قلبي النابض بنبضة توخزني كلّما اشتقت.. اسمها عمّان!

لزخم الأصدقاء واكتظاظ المواعيد وواجبات العائلة معنى لن يفهمه سوى من صار لقاؤه بهم يقتصر على رنّة ومواعيد بالأشهر أو بالسنوات

وخزة تسببت لي بحمّى التناقض، بين البغض والشوق وبين الحب والحقد.. وخزة قسمتني نصفيْن، فنصف في عمّان ونصف آخر يشتاقها من بعيد..
ليتني وجدت كل ذلك فيك يا عمّان.. لما احتجت يوماً لكلماتي المرهقة تلك..

نحن الشباب.. ولأن لنا الغد ومجده المخلّد، بحثنا عن الغد فوجدناه بعيداً عن أحبّتنا فاخترناه لنسعد ذواتنا ونسعدهم، فدفعنا ثمن الوقت.. الذي يضني القلب كلّما مرّ بعيداً عن ملقاهم

كانوا كلّهم أقرب لنا من كل شيء.. فبضعة أمتار أو كيلومترات، ودعوة عبر الهاتف أو موعد مفاجئ ودقة على الجرس وطرقة على الباب.. تفصلنا عن لقياهم فنراهم ونستشعرهم وننعم بهم وينعموا بنا.. حتى لقاء قريب آخر..

إن لزخم الأصدقاء واكتظاظ المواعيد وواجبات العائلة معنى لن يفهمه سوى من صار لقاؤه بهم يقتصر على رنّة ومواعيد بالأشهر أو بالسنوات.. حتى لقاء بعيد آخر.. وتذكرة سفر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.