شعار قسم مدونات

بين دين الأمة ودين المعبد

blogs-مسجد

مما يجدر أخذه في الحسبان عند دراسة الديانات هو النظر في سياقاتها العقدية والكلامية أو ما يسمى بفلسفة الدين تزامنًا مع سياقاتها التاريخية، وإهمال السياقات تؤدي إلى أقيسةٍ باطلةٍ لا تصلح إلا على سبيل الاختزال. فقياس الأورثوذكس المسيحي على السلفية الإسلامية أو قياس الحروب الطائفية الأوروبية على الحروب الطائفية في العالم الإسلامي هو من قبيل الكسل المعرفيّ الذي لا يؤدّي إلى تلمس نتائجَ صحيحة.
 

في هذه المقالة أريد تسليط الضوء على الانقسامات الطائفية المسيحية والانقسامات الطائفية الإسلامية وإظهار الاختلافات بينهما على صعيد فلسفة الدين المسيحيّ وفلسفة الدين الإسلاميّ وإسقاط ذلك على آخر الأحداث المثيرة للجدل، مؤتمر "من هم أهل السنة" الذي عقد في غروزني بالشيشان.
 

إن الثنائية التي أوردتها في عنوان المقال يراد منها إيضاح كيف أن سياق الطائفيّة المسيحية جاءت بناءً على فلسفتهم بأن الدين هو دين المعبد أو دين الكنيسة، بينما سياق الاختلافات والفِرق في التاريخ الإسلاميّ أوضح ما تكون لو فهمنا أنّ الدين هنا ليس مرتبطًا بمؤسساتٍ دينيةٍ، بل هو مرتبط بالأمة أولًا وآخرًا.
 

لم تنشأ في الإسلام مؤسساتٌ تقابل مؤسسة الكنيسة المسيحية، كانت الأمة عند المسلمين تقابل الكنيسة عند المسيحيين، لا يوجد تنظيمٌ هرميٌّ يحدد من الكاهن ومن البطريرك

لقد تزامن تاريخ الديانة المسيحية مع الكنيسة، فقد بدأت الكنيسة مبكرا حوالي سنة 30م كمؤسسةٍ جامعةٍ للمسيحيّين في العالم تحدد لهم اللاهوت وعلم الكلام الخاص بهم وتشير لهم بالفتوى التي يجب عليهم اتباعها في عباداتهم، وقد بدأت الكنيسة موحدةً حتى القرن السادس الميلادي الذي شهد أول انشقاقٍ في تاريخها. كانت الكنيسة هي الدين، بل هي سابقةٌ على بعض جوانب الدين، فالكنيسة سابقةٌ على الكتاب المقدّس حيث كُتب سفر الرؤيا تقريبا عام 90م، أي بعد قيام الكنيسة بحوالي 60 سنة.
 

كانت الكنيسة في كل حادثةٍ ذاتِ خَطبٍ تعقِد "مجمعًا مسكونيًّا" يجمع كلّ قيادات الكنائس في العالم، وقد سمّي مسكونيًّا نسبةً إلى "المسكونة" أي: العالَم كلّه، حدث ذلك مبكرا في كل هرطقةٍ تراها الكنيسةُ، حصل ذلك في المجمع المسكونيّ الأول "نيقية" والمجمع المسكونيّ الثاني "القسطنطينية" والمجمع المسكونيّ الثالث "أَفَسس"، وكانت الكنيسة تناقش الهرطقات وتعيد صياغة قانون الإيمان واللاهوت المسيحي بناء على معطيات النقاش الجديد وللرد على الهرطقة.
 

الإنشاقات المسيحية
أما الانشقاق الأول بين الكنائس الشرقية والكنائس الغربية فقد حدث في المجمع المسكونيّ الرابع حين أقيم مجمع خلقدونية وصار المسيحيّون إلى مسيحيّين خلقدونيّين وهم الكنائس الغربية التي تفرعت منها الكنيسة الكاثوليكية بعد ذلك، وإلى مسيحيّين لا خلقدونيّين والذين ظلوا حتى اليوم باسم الكنائس المشرقية الأرثوذوكسية. وقد حدث انشقاق بعد ذلك في الكنيسة الغربيّة والتي تحولت إلى الكنيسة الكاثوليكية وأصبح مقرها روما وكنائس الروم الأورثوذكس والتي تنتشر اليوم في شرق أوروبا وروسيا على وجه التحديد.
 

حدثت هذه الانقسامات في التاريخ المسيحيّ بسبب جدالات كلامية واختلافات في مفاهيم اللاهوت المسيحيّ وهذا لا ينفي وجود العامل السياسي بطبيعة الحال. كانت السمة الأساسيّة في هذه الاختلافات أنها اختلافات نخبويةتناقشها قيادات الكنائس ويختلفون فيها بينهم ثم تنعكس هذه الاختلافات إلى عامة الناس فيتبعون كنائسهم التي كانوا عليها.
 

وحتى حين قام مارتن لوثر بثورته البروتستانتية على الكنيسة الكاثوليكية حين كان أبرز الأسباب الاحتجاج عليهم هو الرهبنة واستفراد الكنيسة بتفسير النصوص وأن المسيحي يجب أن يقرأ الكتاب المقدس بدون واسطة رجال الكنيسة من خلال شعاره (sola scriptura) أي أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد، وبذلك كان ينبذ الرهبنة والتقليد.
 

كانت فكرة مارتن لوثر تعيش بين جذور الرهبنة وبين الفردانية في التفسير، ولم تكن تدرك فكرة الأمة، فصارت بذلك الكنيسة البروتستانتية إلى كنائس عدة وانشقت انشقاقاتٍ متواليةٍ حتى سجل في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها حوالي 30 ألف كنيسة (الكنيسة هنا بمعنى الطائفة). وسوف أعود لتفسير هذه الظاهرة بعد الحديث عن السياق الإسلامي للفِرَق.
 

السياق الإسلامي
أما في السياق الإسلامي فقد بدأت جذور مشكلة الطوائف والفرق مبكرًا، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بـ 30 سنةٍ تقريبًا حيث احتد الصراع بين أنصار علي وأنصار معاوية، وقد بدأ الصراع سياسيًا، فقد كان اختلافهم حول الاقتصاص من دم عثمان ولم تدخل فيه المسائل الكلامية والعقدية، ومن بعد ذلك استمر الصراع بين تيارين، وزاد الصراع صراعًا في عهد بني أمية وثورات أهل البيت المتتالية، واستمر بعد ذلك في عهد الدولة العباسية حتى صار للشيعة مذهبٌ عقديًّا وفقهيًّا خاصًّا يتميزون به عن باقي المسلمين.
 

إن الصراع لم يستمر كصراعٍ بين تيارين سياسيين أو بين تيار سياسي والسلطة كما كان في بدايته، لقد تطور الخلاف حتى صار صراعًا بين مذهب عقدي وبين أمة، فعموم الأمة الإسلامية أو كما صارت تسمى بعد ذلك "أهل السنة" كانت على خلاف مع الشيعة لا يشبه الخلافاتِ الأخرى.
 

نعم لقد صار في الإسلام فرقا ومذاهب مختلفة كالأشعرية والمعتزلة والجهمية والمرجئة وغيرهم، لكن الخلاف مع الشيعة كان يختلف عن الخلافات الأخرى، وقد جعل العلماء أهلَ السنة بالمعنى العام هم جميع المسلمين ما عدا غلاة الشيعة، فإن وجود عديد من الطوائف والفرق والاختلافات الكلامية لم تمنعهم أن يكونوا جزءًا من الأمة. فمفهوم الفرقة عند المسلمين يختلف عن مفهوم الفرقة عند غيرهم، وقد كان سبب التفرق سياسيًّا، لكن الفرقة السياسية وغلاتها الذين خرجوا عن مسار الأمة في غالب المحاور قد انكفؤوا على أنفسهم بتحديد مذهب عقدي وفقهي خاص بهم لا يستطيع إلا أن ينفك عن نسيج الأمة، وهذا لا يعني تكفيرهم أو إخراجهم من دائرة الإسلام.
 

إن ما حدث في غروزني لتحديد من هم أهل السنة، يكرس في المسلمين مفهوم دين المعبد لا دين الأمة، ومؤتمر كهذا يعيد إلى التصور المجامعَ المسكونية المسيحية

لم تنشأ في الإسلام مؤسساتٌ تقابل مؤسسة الكنيسة المسيحية، كانت الأمة عند المسلمين تقابل الكنيسة عند المسيحيين، فأي فرد في الأمة يمكن أن يكون عالمًا، لا يوجد تنظيمٌ هرميٌّ يحدد من الكاهن ومن البطريرك، ولا يوجد لباس خاص بأهله، بل إن هذه الكتب مفتوحةٌ للجميع، ويستطيع الجميع أن يتعلمها وأن ينازع من أراد من غير أن يخرج عن مفهوم الأمة.
 

وهنا يتضح الفَرق جليًّا حين ننظر إلى ثورة مارتن لوثر. لقد حاول مارتن لوثر أن يثور ضد الرهبنة وأن يجعل الفرد المسيحي يقرأ كتابه ويفهمه من دون واسطةٍ بشريةٍ، حتى أن الفاتيكان اتهم اللوثريين للسبب السابق بأنهممحمديون، لكن الفرق أن السياق المسيحي لم يعرف نفسه إلا عن طريق مؤسسة الكنيسة.

لذلك حين اختلف البروتستانت أنفسهم في فهم كتابهم لم يظلوا جماعةً واحدةً، رغم أنهم يدعون إلى فهم الكتاب المقدس بدون واسطة، بل إنهم لم يطيقوا اختلافاتهم على المنهج الذي دعوا إليه وانقسموا إلى آلاف الكنائس، لقد كانت جذور الرهبنة حاضرةً، وكل ذلك كان لغياب "مفهوم الأمة".
 

ختامًا:
إن ما حدث في غروزني لتحديد من هم أهل السنة، يكرس في المسلمين مفهوم دين المعبد لا دين الأمة، ومؤتمر كهذا يعيد إلى التصور المجامعَ المسكونية المسيحية، إن هذه الأمة الإسلامية لا يحددها جدالاتٌ كلاميةٌ زائدةٌ عن أصوله، ولا ينظر إليها كمعابد تتحارب من أجل مسائل لاهوتية، بل هذه الأمة تختلف وتظل داخل النسيج نسيجًا واحدًا متجدّدًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.