شعار قسم مدونات

أبوبكر.. هل هو لاعبٌ جزائري!

Childrens

أطفالنا فلذاتُ أكبادنا، هم نور عيوننا، يولدون ويترعرعون أمام أعيننا، نغدق عليهم كل أصناف الحبُّ والحنان، إذا مسَّ أحدهم سوءٌ -لا سمح الله- جَزِعنا وتألّمنا بألمه، حبُّهم غريزةٌ عند كل الكائنات الحيّة، وهو سببُ استمرار جنسهم في هذا الكون. 
 

إن أي أمة تريد أن تستمرَّ في هذه الحياة كأمة لها وجودها لابُدَّ أن تُحافظ على ما تتميّزُ بها من الأمم الأخرى، ولابُدَّ أن تنجح في نقل ما تفتخر به من التقاليد والمعتقدات والأخلاق إلى أجيالها القادمة، في هذا العالم الذي يصفونه بـ "القرية الصغيرة" وربما أصبح غرفة واحدة، تذوب مجتمعاتٌ مع أفكار وقيم مجتمعات أخرى، بسبب إهمال الأولى تنشئة أجيالها على القيم والمعتقدات التى ينتسبون إليها.
 

إن أمة لا تفتخر بماضيها، ولا تتشرف بأجدادها، فلا حاضر ولا مستقبل لها

خلال عملي في الحقل التعليمي أكثر من عشر سنوات، لاحظت تغيّراً في سلوك شبابنا في العالم العربي والإسلامي، ولا غرابة في الأمر، فما يتعلّمونه من شاشات التلفاز وعلى وسائل التواصل الاجتماعي أو الشبكة العنكبوتية أكثر مما يتلقونه في مقاعد الدراسة، وربما إهمال بعض أولياء الأمور هو عنصر آخر من عناصر ضياع الثروة البشرية الناشئة لدينا.

تأثرت كثيراً بقصة حكاها لي أستاذ من أساتذة الجامعة التى درست فيها، قصة أدمعتْ عيني، وأيقظتْ ضميري، يقول أستاذي: في ليلة من الليالي، جئتُ إلى البيت متعباً من العمل كعادتي، دخلتُ غرفتي وبدأت أقلّبُ صفحات الكتاب لتحضير دروس الغد، وأنا منهمك في القراءة وتقليب الأوراق، دخل عليَّ ولدي البكر فرِحاً، وتعلو على وجهه ابتسامة، قال لي: أبي، هل سمعت أن اللاعب الفلاني اشتراه النادي الفلاني بـمليون دولار؟!

سكتُّ لحظات،لأنني رجل في الخمسينات من العمر، رجل متديّن، لست مهتمّا بالرياضة ولا بأخبارها، وربما أستغربُ من بيع إنسان وكأنه سلعة تُباع وتشترى!، أشرتُ له بأن يقترب ويجلس عندي، قلت له: يا ولدي، لم أسمع هذا، متى حدث؟، فبدأ بسرد قصة اللاعب وهو متحمّس، حكى لي عن اللاعب ومتى بدأ مسيرته الرياضية، وعن عدد المباريات التى شارك فيها، وعدد الأهداف التى سجّلها، بل تجاوز إلى تفاصيل حياته الشخصية، مولده ونشأته، حالته الأسرية واسم زوجته، والراتب الذي يتقاضاه.

كل هذا الوقت الذي استغرق ولدي في قصة رجل لمّعوه وألبسوه أوسمة الشرف والبطولة،وصوّروا لولدي أنه النجم الذي يستحق أن يكون مثالاً يُقتدى به، كنت حزيناً كئيباً، كنت أحسُّ بالجرم الذي اقترفته بحقّ ولدي فلذة كبدي، كنت أشعر أنني ضيعته، وما إن انتهى من قصة اللاعب نظرت إليه بابتسامة مصطنعة غير حقيقية، وقلت له: يا ولدي، هل تعرف أبو بكر الصديق؟ فكّر قليلاً ونظر إلى السماء، وقال لي بعد دقيقة من التفكير: أبو بكر! هل هو لاعبٌ من المنتخب الجزائري يا أبي؟!

هو عرف أن الاسم عربي، وربما استحضر الجزائر كدولة عربية قوية في مباريات كرة القدم، لكنني أدركت حجم المأساة التى يعيشها ولدي، ومدى التيه الذي هو فيه، هو يدرس في مدرسة إسلامية، يصلى الصلوات في المسجد، ويعيش في مجتمع مسلم، وربما سمع أبو بكر الصديق وغيره من الصحابة، لكن تلميع الإعلام لهذا اللاعب طغى على فكره، ونسي عن أعلام الهدى ومصابيح الدجى، من حينها قررتُ أن يكون ولدي هو صديقي، أعلمّه بنفسي، وأصطحبه إلى الدّورات والملتقيات العلمية، أشرِفُ على تربيته وتعليمه بنفسي.

انتهت قصة الأستاذ، لكن قصصاً مشابهة لأولاد من مجتمعاتنا لازالت مستمرة، أولادنا تعرّفوا على اللاعبين والمغنيين والمغنيات، والساقطين والساقطات، لكنهم جهِلوا عن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلى ابن أبي طالب، لم يعرفوا قصص الصحابة والتابعين، ولا أخبار المخترعين المسلمين كـ عباس فرناس، وأبي بكر أصفهان، والزهراوي، وأبو يعقوب يوسف وغيرهم، فهل بعد هذا الضياع من ضياع؟ إن أمة لا تفتخر بماضيها، ولا تتشرف بأجدادها، فلا حاضر ولا مستقبل لها، وكل أمة تفشل في نقل هذا التراث إلى أبنائها فهي أمة زائلة، لا شك أنه يستحيل أن يعيش أبنائنا وهم مرفوعو الهامة، شامخوا الصدور ويعتزون بماضيهم، إذا لم نغذي أفكارهم بسِيَر ماضي هذه الأمة المجيد، وتأريخ بطولاتها الفذة.
 

إن سببَ مثلَ هذه المآسي، هو غياب الوعي والثقافة لدى الأسرة، فالأسرة التى لا تتابع حياة أولادها وطرق تفكيرهم واهتماماتهم الشخصية، لا شك أن أولادها سيضيعون، وتكون النتيجة مالا تُحمُد عقباه.
 

العلاقة العدائية التي تُبنى على الخوف والضرب والتأنيب بين الوالدَين والأولاد هي التي تقف حائلاً أمام تغيير سلوكيات أولادنا

في مرحلة مابعد السابعة من العمر، الولد يحتاج إلى أبٍ يكون له الصديقَ والرفيق، يبوح له بأسراره، ويُحلُّ له مشاكله ومعضلاته، وإن البنت كذلك تحتاج إلى أمٍّ تثق بها، تستشيرها في كل تفاصيل الحياة، وتكون لها الصديقة المخلصة، وإذا غابت هذه الثقة بين الوالدَين وأولادهما، ربما استفاد غيرهم في هذه الفجوة، واصطاد في الماء العكر، وما أكثر الأعداء الذين يتربصون في إغواء شبابنا وفتياتنا، وينفقون المليارات لتمييع هويّتهم وتضييع مستقبلهم.
 

فلنراجع علاقتنا مع أولادنا، ولنصحح مسار حياتهم بخبراتنا، فالعلاقة العدائية التي تُبنى على الخوف والضرب والتأنيب بين الوالدَين والأولاد هي التي تقف حائلاً أمام تغيير سلوكيات أولادنا، لذلك لابدّ من نغير تعاملنا مع فلذات أكبادنا، ولابُدَّ أن نكافح في تعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم أكثر من كفاحنا على تحصيل رغد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.