شعار قسم مدونات

أزمة النخب الوطنية في الثورات

BLOGS-ثورة

ما كاد المستنير العربي (أعني مثقف النخبة) أن يحتفي بمحاولة الشعوب العربية الخامدة، التي طالما استنهض هممها بلا هوادة، تفكّ طوق الاستبداد الحكومي والديكتاتوريات الصدئة ضمن سلسلة من حملات "الربيع العربي" المتنقّل في غير بلد طالته حمى التغيير الديمقراطي ـ ولو جاء متواضعاً ـ

حتى كان القدر بانتظاره ليواجه أعتى أشكال الاستبداد العقائدي في هيئة تطرّف ديني خوارجي لجماعات مجهولة المنبت، ما لبثت أن انتشرت بسرعة انتشار الفطور السامة في أرض متروكة، بل تغوّلت وانقلبت إلى مجموعات إرهابية منظّمة عابرة للحدود تعيث قتلاً وترويعاً وعبثاً بحياة المدنيين العزل في أصقاع الأرض، وقد انتظمت تحت لواء الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

وقف ذاك المستنير، صاحب سلاح الحبر الحرّ والكلمة الاستباقية، مشدوهاً أما صدمة ما يدور حوله، وفي مواجهة مباشرة ويومية غير مسبوقة في التاريخ البشري المعاصر مع مشهد الدم البريء المسفوك مصاحَباً ولوعة صرخات الوجع العربي في ربيعه المقتول!

فالتغيير المنشود الذي زرع شتلته الصغيرة كتّابٌ وفنانون ومفكّرون، وسقَوا غرسته الصعبة على مرار عقود، قد نبتت له أشوك خرافية تكاد تفترس شجيرة الديمقراطية تلك، الوحيدة والضعيفة في مهب رياح العنف المؤدلج الصفراء تهبّ عليها من كل مجهول.

الدولة الوطنية التي تشكّلت في غير بلد عربي بُعيد الحرب العالمية الثانية والاستقلال عن الاستعمار القديم تحديداً، لم تنعم إلا بفترات قصيرة جداً بحكم وطني مستقلّ

نعم، إنها صدمته أما سكّين وحشيّ يجزّ الأعناق بلا رادع، ويقسّم الأرض الواحدة والشعب الواحد والأحلام المحتملة إلى محميات لشراذم متناحرة وبقايا مستقبل عربي يدخل مأسوراً في نفق من العسف والظلامية.

وإذا كانت مسطرة البريطاني مارك سايكس، والفرنسي فرانسوا جورج بيكو، قد رسمت مناطق النفوذ الأوروبي في جسم الخارطة العربية عام 1916 إثر انهيار امبراطورية الرجل العثماني المريض بعد الحرب العالمية الأولى، وخطّت بالحبر حدوداً مفترضة بين "الدول المستقلّة" التي كان عليها أن تتطوّر باتجاه دول مدنية تحكمها نخب وطنية، فكرية وسياسية، تحافظ على الحريات الفكرية والعامة وترعى التعدّدية وترجّح كفّة القانون،
 

فإن السكّين الداعشية المسنونة على رقاب ضحاياها العشوائيين قد قسّمت بخيط من الدم النسيج السكاني، ومزّقت اللُحمة الشعبية التي كانت تتعايش لمئات من السنين خلت على أرض تلاقح الثقافات العرقية والقومية والدينية على ضفتيّ الفرات ودجلة في سوريا والعراق
وهي بذلك تكاد تلغي أية إمكانية لاستعادة المشترك الوطني بين أبناء البلد الواحد في حملتها للفصل والتطهير العرقيين تتجاوز خطورة التقسيم الجيوسياسي كونها تستهدف مقومات اللقاء الإنساني بين أطياف المجتمع الواحد، وترفع حواجز الدم والعنف والكراهية بين مكوناته البشرية في بعديها الثقافي والديني.

أما الدولة الوطنية التي تشكّلت في غير بلد عربي بُعيد الحرب العالمية الثانية والاستقلال عن الاستعمار القديم، في الهلال الخصيب تحديداً، فلم تنعم إلا بفترات قصيرة جداً بحكم وطني مستقلّ، مدني وتعدّدي وديمقراطي، قام علي أيدي مستنيريها من النخب الفكرية والسياسية الوطنية المستقلّة.

ففي سوريا مثلاً، لم ترَ هذه الدولة الوطنية النور إلا لفترة وجيزة جداً إثر الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وهي فترة حكم شكري القوتلي التي أطاح بها انقلاب العقيد حسني الزعيم في 30 آذار/مارس للعام 1949، وهو الانقلاب الأول في العالم العربي الذي شكّل سابقة نوعية،

ومهّد لسلسلة انقلابات وصلت في عام واحد إلى ثلاثة انقلابات متوالية قادها ثلاثة ضباط هم الزعيم والحنّاوي والشيشكلي، وأسست نتيجةً لحكم العسكر وسلطة الجزمة العسكرية في غير بلد عربي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.