شعار قسم مدونات

ونريد حرية.. في حجم جمجمة وأغنية

blogs - free
في شتاء الغربة البارد.. أمارس هواية المشي بإسهاب، لم يعد يحتوينا سوى الطريق، لم تعد تدفئنا سوى الذكريات، المؤلمة منها خاصة، نجمعها حطباً يابساً، وننتشي إذ نراها تحترق، وتحرق أيامنا تباعاً.. نكررها بهوَس، نقبض عليها لألّا نضيع حين تضيعُ منا، نتشكل على هيئتها، ماءً في إناء الحياة الصاخبة، المزدحمة بالحنين والوجع.. تخفت الذكريات فجأة، وتصحو لحظةٌ واحدة، تأخذنا من كلّ شيء، كأنها حقاً كلَ شيء، لعلنا لم نعش سواها، لم نعش إلا حين متنا حينها..

في بيتنا القديم، الملوّن كحياة حقيقية، وطفولة عذبة، في يومٍ ربيعي دافئ، أسمع صوت الطيران الحربي لأول مرة، يقترب الطيار من أرض بلاده، يرمي الموت على السكان، يبتعد فرِحاً، يتكرر المشهد في ذات اليوم.. الطيار في السماء، وأخي على الأرض، يذود عنها.. أخي الآن في المعركة، الكل في انتظار انتهائها، وأنا في انتظار صوت أخي.. يهبط الليل على قلبي قبل المدينة، تأتي أسماء الشهداء تتَرا، قمر تلو آخر.. والسماء تتشح بالسواد..

قبل الشهداء وبعد الشهداء، قبل الغربة وبعد الغربة، قبل التاريخ وبعد التاريخ، قبل الوعود السياسية، قبل الهُدَن، قبل الزمن.. نريد حرية في حجم جمجمة وأغنية.

كان عندنا ضيوف أعزاء، وكانوا يمرحون، قالت لي إحداهن: "اضحكي مو متعودين عليكي هيك" قلت في نفسي بتهكم العارف: ستعتادون عليّ كذلك عمّا قليل.. في صباح اليوم التالي، أستيقظ على صوت بكاء أختي الصغيرة، يُطرق الباب، أناسٌ يبكون، وأنا لا أصدّق أي شيء، يطرق الباب ثانية، أناسٌ يبكون، أبكي دون أن أصدّق، يطرق الباب أيضاً، وجه أمّي أخيراً.. يقول كل شيء.. يقول أكثر من الحزن أنّها خائفة علي، ولا تملك ما تقول لأكثر من في البيت عاطفة والتصاقاً بالشهيد.. "افرحي يا ماما قدمنا شهيد" تقول أمي.. ولكني أيضاً لم أصدّق..

وتأتي اللحظة الفاصلة، "هي ساعة لوضوحنا.. هي ساعة لغموض ميلاد النهار".. أخي الذي لطالما دخل من الباب يهتف باسمي.. يحمل الأغراض لأمي.. يضحك.. يهذي.. يحكي.. يفعل أي شيء، يدخل الآن من ذات الباب، صامتاً.. محمولاً على الأكتاف، نائماً كملاك، عيناه الكبيرتان ليستا مغلقتان تماما، يشع من بين الرموش لون العسل، في الوجه رصاص، في الجسد قذائف، دمٌ.. دم.. دم..
"وأنا لما رأيتك مسجّى أمامي.. سقطت من هول الذهول
كيف أتنفس بلا رئتين.. كيف شمس بلا عودة تشرع بالأُفول!"

رجلاي الوفيتان لجسده الممدد، خانتا جسمي الهزيل، على الأرض مصابة بقلبي، خائرة القوى، فارغة الفؤاد كأم موسى، فاقدة الوعي.. أصحو على كلمة واحدة كرصاصة أخرى، تطلقها جارتنا التي تحب أخي حقّاً.. "بدكن حرية؟" كالملسوعة أقوم وأصرخ: "بدنا حرية اي اي بدنا حرية"..
قبل الشهداء وبعد الشهداء.. قبل الغربة وبعد الغربة.. قبل التاريخ وبعد التاريخ.. قبل الوعود السياسية.. قبل الهُدَن.. قبل الزمن.. نريد حرية في حجم جمجمة وأغنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.