شعار قسم مدونات

الهجرة النبوية ودولة الفكرة

blogs - camels
لم يكن اختيار الهجرة النبوية في السنة الخامسة عشر في عهد الفاروق عمر بن الخطاب بداية للتأريخ لحركة التاريخ الإسلامي، عبثا، بل أخذت من المسلمين سجالا وحوارا وأخذا وردا، حتى استقر الحوار بالاتفاق على اعتماد الهجرة بداية للتأريخ الإسلامي، مع أنها ليست بداية تاريخ الدعوة الإسلامية، ففي الهجرة عبر وعظات ومسوغات قادت النخبة الحاكمة من الصحابة إلى ما توصلت إليه ولم ينكر سائر الصحابة عليهم هذا الاتفاق فبلغ حد الإجماع، ويمكن تتبع هذه المسوغات باختصار شديد فيما يلي:
 

1- الهجرة النبوية نقلت الدعوة الإسلامية من مرحلة الدعوة والتبشير، بنقائها ونخبويتها وابتلاءاتها وعذاباتها وضعفها وتطهريتها وصلابة المؤمنين بها وتربويتها المثالية، إلى مرحلة المجتمع والدولة، بتحدياتها وتعقيداتها الاجتماعية والسياسية ونظمها وتشريعاتها وطبيعة منهاج الحكم فيها وتعاملها مع الآخر المختلف دينا وعرقا وقبيلة، ودور المرأة في مفاصلها، وأعدائها الجدد.

الهجرة تمثل انتصارا حقيقيا للفكرة والمنهج والشورى والحوار، على الغطرسة والتسلط ومصادرة حرية الإنسان في الاختيار.

ففيها نزلت مختلف التشريعات التي تنظم علاقة الإنسان بربه (كالصيام والحج والزكاة) وأحكام الأسرة وتنظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان (كالمعاملات وأحكام الجهاد)، وتنظم علاقة الرجل بالمرأة كأحكام الاسرة وآدابها التي تتوزع على ما يقرب من ست وعشرين نظاما متفرعة عن نظام الاسرة.

2- وهي انتقال من مجتمع تجاري آحادي في نظرته للواقع والمجتمع والحياة إلى مجتمع تعددي دينا وعرقا وقبيلة. وهذا ما نقل الفكرة من الدائرة المكية الصغيرة إلى المرحلة العربية فالعالمية وأكسبها خبرة جديدة في بناء العلاقات الانسانية بأشكالها المختلفة.

3- بعد الهجرة وضع النبي صلى الله عليه وسلم أول وثيقة دستورية مدونة، تتشكل من بضع وأربعين مادة دستورية، تنظم العلاقات الداخلية للمجتمع الإسلامي التعددي، بكل مكوناته، القبلية والعرقية والدينية على قدم المساواة، وترسم الإستراتيجيات في التعامل مع الأعداء من خارج الدولة.

4- الهجرة تمثل انتصارا حقيقيا للفكرة والمنهج والشورى والحوار، على الغطرسة والتسلط ومصادرة حرية الإنسان في الاختيار. وبالهجرة تحولت الدعوة إلى مرحلة المؤسسات ببناء المسجد والسوق وتحرير مصادر المياه وبناء التحالفات وبناء الصناعة العسكرية واكتساب الفنون الحربية الجديدة كحفر الخندق وتوظيف الجغرافيا والحرب النفسية في القتال. 

5- الهجرة تمثل الانتقال من النخبوية الى الانفتاح على كل الوسائل في الدعوة والتبليغ والانتشار، من التبليغ باللسان إلى مغالبة العوائق باللسان والعقل والحوار والسيف والسنان وأُذن للمجتمع الاسلامي لأول مرة بالقتال.
 

6- الهجرة تمثل مرحلة التحرر والتخلص من التبعية الاقتصادية والاحتكارات اليهودية لاقتصاديات المدينة، بإنشاء النبي عليه الصلاة والسلام، الأسواق الإسلامية المنفصلة.

7- الهجرة تمثل التحرر من مرحلة التبعية في مصادر التسليح، والانتقال إلى مرحلة الإنتاج وتعدد مصادر التسليح وصناعة الوسائل القتالية من خلال البعثات العلمية للتدرب على صناعة الدبابات في جرش.

الهجرة أفرزت دولة الفكرة ودولة المدينة، التي تجمع بين الواقع والمثال، بين العلم والعمل بين السلم والحرب بين الخلافة والشورى.

8- الهجرة تمثل مرحلة بناء الجيش والقوة المدافعة عن الفكرة والمجتمع والمنهج، وميلاد فريضة الجهاد، التي نقلت المجتمع نقلة نوعية في علاقاته الداخلية والخارجية.

9- بالهجرة تغيرت موازين القوى في الجزيرة العربية، وانتقلت الفكرة من مرحلة الملاحقة والمطاردة الى مرحلة التمكين وبناء مصادر القوة ونسج التحالفات الداخلية والخارجية وبروز ما نسميه اليوم العلاقات الدولية والتحالفات السياسية في حركة المجتمع والدعوة على السواء.

10- وبالهجرة اتسعت فكرة الوطن لتشمل البقاع التي تنتصر فيها الفكرة، فظل المهاجرون أبناء مكة في المدينة يقاسمونهم أسباب الحياة، بل وتحولوا إلى خلفاء وحكام على أهل البلد، ولم يسجل التاريخ أي حركة احتجاج أو انقلاب على هذا الوضع الجديد.

إنها الهجرة التي أفرزت دولة الفكرة ودولة المدينة، التي تجمع بين الواقع والمثال، بين العلم والعمل بين السلم والحرب بين الخلافة والشورى بين الرجل والمرأة سواء بسواء.

لهذا لم تكن الهجرة مجرد حادثة عابرة، بل كانت نقطة تحول وعلامة فارقة في تاريخ الإسلام والمجتمع الاسلامي، مهدت لظهور نظام الخلافة والاتفاق على أبي بكر وحسم أي إمكانية للخلاف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.