شعار قسم مدونات

أعظم متسول في التاريخ

blogs - boger

أذهلني طلبه مني، بعد ما قرع نافذة سيارتي، في البداية ظننت بأنه يعمل في محطة الوقود التي وقفت فيها، ليطلب مني التحرك ليتمكن غيري من المرور أو ما شابه ذلك، إلا أن الأمر لم يكن كما ظننت، قال لي بعد السلام عليكم: أنا من دولة باكستان، وحدثني بحديث رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام القائل: "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى".

قاطعت حديثه بردي السلام، وسألته "أين تعمل؟" لأني أيضا ظننت شيئا آخر، ظننت بأنه سيشكي لي ظلم مديره في العمل، لأنه سبق والتقيت بمن يشكي كهذه الشكاوى، أخبرني بأنه يعمل في أحد مؤسسات المقاولات، ولكن كرر لي حديث رسولنا عن الترابط والتلاحم بين المؤمنين، وتابع قائلاً أنا أخوك من دولة باكستان، فقلت في نفسي إنه إذاً متسول يبحث عن المال سأدعه يكمل ومن ثم أقرر هل يستحق المال..
 

لأنه يعلم بأن حب الأم يستحق ما هو أكثر من الدعاء، فقام يجوب الشوارع متسولاً من الناس الدعاء لها، فمن كانت له أم فليحسن لها ومن منكم فارقت أمه الحياة فليكثر لها من الدعاء

تابع الحديث بذكر والدته التي يقول بأنها تعاني من مرض وهو مغترب في السعودية لأجلها ولأجل والده الكبير في السن، هنا تأكد شكي بأنه متسول، ولكن أذهلني طلب هذا المتسول!! جعلني لا أتوقف عن التفكير، ألهمني في كتابة ما أكتب الآن، لم أتوقع هذا الطلب ولن تتوقعوا أنتم أيضاً، طلب مني الدعاء بعد الصلاة لوالدته المريضة، قدمت له المال؛ لأنهي توسله لي وإلحاحه علي بأن أدعو لها.. <>إلا أنه رفض المال، وعاد مرة أخرى وذكرني بحديث نبينا "مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى"، هنا توقف تفكيري من ذهولي وما كان مني إلى النظر بصمت في ملامح هذا الشاب، مد لي ذراعه مصافحاً، وقال السلام عليكم، وذهب لسيارة آخرى متسولاً من صاحبها الدعاء لأمه المريضة.

 

قرأت فيما مضى قصص عن البر بالوالدين، واستمعت أيضا من الوعاظ والدعاة قصص عن البر وعن العقوق، إلا أنها تبقى قصصا عابرة مع مرور الوقت تنسى، ولكن بعدما عشت أنا أحد هذه القصص، قصة لم أتخيل في يوم من الأيام أنها حقيقية، عادت لذاكرتي كل ما مضى من قصص بر وقصص عقوق أيقنت بأن حب الأم يفوق كل الحدود وكل التوقعات.
 

في الختام لا أقول لكم إلا أن هذا الشاب من دولة باكستان علم في الغربة بمرض أحب الناس له في هذه الحياة، أراد أن يقدم لها شيئا، ولكن ليس بيده ما يقدمه غير الدعاء لها، ولم يكتفِ بدعاء فحسب؛ لأنه يعلم بأن حب الأم يستحق ما هو أكثر من الدعاء، فقام يجوب الشوارع متسولاً من الناس الدعاء لها، فمن كانت له أم فليحسن لها ومن منكم فارقت أمه الحياة فليكثر لها من الدعاء.
 

اللهم يا من قلت وقولك الحق (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، إنّا نسألك رضاك ثمّ رضاء الوالدين اللهم اغفر لوالدينا وارحم والدينا وتجاوز عنهما، اللهم اجعلنا من أحبّ الناس إلى والدينا ومن أقرب الناس لهما، وأكرمنا بحسن السؤال لهما والحرص عليهما، اللهم لا تشغلنا عنهم لا بمال ولا بزوجات ولا بولد، اللهم ارزقنا برّهم في حياتهم وبعد وفاتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.