شعار قسم مدونات

مقديشو.. وضحكات القادة

blogs-مقديشو

إنها الضاحكة الحنونة عندما ينظرها أبناءها بعين التعظيم ويصفونها بألفاظ التفخيم، مدينة مجنحة بجناحين من الرجاء والخوف يخفقان تارة بإرادة الشعب وبإرادة الغرب تارة أخرى ولكن الغرب يملك التحكم غالبا.

وهذا ما أردف ضحكتها حزنا طال أمده، وما زال يأوى إليها السماسرة التي تبيع البر والبحر والجو وكل ما بقي من ممتلكات الوطن وهم يحملون أقنعة متنوعة الأشكال والألوان ويمتلكون أكثر من جنسية واحدة وليس من المستغرب أن كونهم أجانب أقرب من كونهم صوماليين وهم يتكلمون بلسان صومالي مبين.
 

تظنني وأنا أتسكع بشوارعها وأسواقها مع ثلة أولي فرح ومرح بعد الهدوء الحذر، وكأننا نتجول في شوارع لندن باستثناء ذعر أهلها ودقات ساعتها الـ (بيغ بن) خلال الأيام التي كانت فريسة الغارات النازية في عملية هجوم النسور التى ألحقت قصورها دمارا واسعا، لكن الدمار هنا لا يعكس أي انكسار في الوجوه الطلقة التي تحبذ العمل رغم الصعاب، حيث لا مكان للرفاهية في حالة الحرب.
 

نهاية كل أربع سنوات حين تقام الانتخابات ويبدأ كل شيء من نقطة الصفر، تقرع العاصمة وأبناءها الطبول يجددون الآمال لترحيب فصل الربيع وقرب قدوم القائد الخارق

ولا شيء يساوي مع الأمن والهدوء، فأهل التجارة أدرى ذلك بكثير، وأتذكر قبل أعوام عندما كان وابل من المدافع ينهال على أكبر سوق تجاري في العاصمة بشكل يومي، وبصورة عشوائية، يهرول الناس إلى الملاجئ الآمنة، والمباني المشيدة ليمكثوا فيها ريثما ينتهي القصف.
 

كانوا يجمعون الجرحى والشهداء، ويواصلون البيع والشراء باقي نهارهم وعلى آثار الموت الأحمر في الشوارع، كأن لم يحدث شيئا، لأن المدينة سحرت عيون أهلها وملكت أفئدتهم، فأبوا إلا أن يرحلوا أن يرحلوا عنها، كانت هذه قصة صمود لم يشهد مثلها العالم.
 

لكن العاصمة مع صعوبة حالها أنعم الله عليها بأبناء يلبسون لكل حالة لباسها، ويرونها في عيونهم جوهرة أفريقيا المظلة على المحيط الهندي، كلما هدأت فيها نسبيا، وسكنت موجات الحروب وأعاصير الهجمات وسلاسل الإنفجارات يأتون من كل حدب وصوب، ليشهدوا منافع لهم فيها ويعيدوا ترميم قصورها ويعمروها بكل ما أوتوا من الدنيا، والأهم من ذلك كله ليصنعوا فيها الحياة بين خراب البيوت وخراطيش الرصاص وعلى أنقاض الموت.
 

مضت خمس وعشرون عاما تخضر أشجارها وتصفر دون أن تثمر، وكل صباح يغني طيورها للسلام والوئام، وهي تراود ذلك القائد الخارق الذي يخرج الجوهرة من صَدف المحن و أمواج الحروب إلى بر الأمان و النور، ومضى ربع قرن وهي عاصمة من دون حكومة أو لحكومة قائمة على أقدام غيرها وربما على أقدام عدوها إذا اقتضت الحاجة كي تبقى على قيد الحياة ودام وجودها في القصر الرئاسي.
 

ومرت حكومة تسيطر على ذلك القصر فقط وما حوله والطريق الذي يؤدي إلى المطار وتمت سيطرة ذلك بدعم من الإتحاد الأفريقي عسكريا والمجتمع الدولي لوجستيا، وحينئد أساء الإعلام سمعة الجوهرة ولطخها وصمة العار، عندما زار إعلامي غربي إليها تلك الفترة واستخدم في وصفها أسماء التفضيل وصيغ المبالغة عبارات مثل (أسوأ، أخطر) وكل الصفات الموجودة في قاموس هجاء المدن ما لم يخطر ببال ابناءها عندما يصفون هذه العاصمة.
 

كل ربيع يقولون أن المناخ هذه المرة يوحي بأن الأشجار ستثمر قبل أن ينتهي الربيع، ولكنه يحاكي باقي الفصول وتبدأ فترة الحكم من جديد كرحلة عقارب الساعة تماما لا تتغير في السرعة والإتجاه

نهاية كل أربع سنوات حين تقام الانتخابات ويخلع جميع القادة في البلاد من الحكم، ويبدأ كل شيء من نقطة الصفر، مثل عقارب الساعة تماما عندما أكملت دورتها ودقت على ساعة الصفر.. تقرع العاصمة وأبناءها الطبول يجددون الآمال ويرفعون شعارات الحقيقة والخيال لترحيب فصل الربيع وقرب قدوم القائد الخارق.
 

وكل ربيع يقولون أن مثله لم يأتهم منذ عهد، وأن المناخ هذه المرة يوحي بأن الأشجار ستثمر قبل أن ينتهي الربيع، ولكنه عادة يحاكي باقي الفصول وتبدأ فترة الحكم من جديد كرحلة عقارب الساعة تماما لا تتغير في السرعة والإتجاه من ساعة لأخرى حسب المألوف، ويدخل في القصر قائد جديد.
 

عندما تنتهي الانتخابات.. ينادى على المنتخب باسمه الثلاثي ليحلف بالله ثلاثا بكل حروف القسم على أنه القائد المخلص الذي يحفظ كل ما يوجب الشرع والقانون، ويعمل في مصلحة ألوف الجياع والمشردين وكل أفراد الشعب يخفض لهم جناح الذل، فحينئذ تودعه فرقة من الشرطة الصومالية القديمة -من بقايا نظام الدكتاتورية التي أطاح بها الشعب وقرع لفقدها سن الندم- لتطربه بموسيقهم الصاخبة وليشعر شيء من الشرعية ما يكفي أن يحاكي قائدا خارقا طال انتظاره.
 

ويبحث فورا ألف طريقة كي ينسي بها الشعب مما يدور برأسهم وما يتساءلون في الأندية، أي نوع من الأقنعة سيلبس قائدنا الجديد؟، وأي من الدولتين المجاورتين يزور زيارته الأولى ؟ وهل سيترك ما تبقى من الأرض والبحر أم سيبيع جزءا كما بيع منها؟
 

وفي ظل تلك التساؤلات يخلق في العاصمة جو من الطرب وترحيب قدوم القائد بباقات الزهور وألوان الورود، بحضور جمع غفير من المجتمع الدولي والعربي والإتحاد الإفريقي ويرفع فوقهم العلم الذي يحمل لون السماء الصافية ولون السحاب الناصعة، وتلك الصباح يستمع الناس أغنية الوطن ويبلغ صداها مسامع كل مواطن ليصغى إليها ويطرب ويمرح بالفجر الذي انبلج وإن لم يتضح أي من الفجرين هو الصادق أم الكاذب، وحينئذ تضحك العاصمة وهي تبشر أهلها بالخير والصحة والعافية.
 

وفي أول كلمته يتمثل القائد بشرا سويا أمام مجلس الشعب ليتلو عليهم التحيات وآيات التهاني والتبريكات ثم يتلو قائمة من مواعيد عرقوب، تنال إعجاب الحضور حتى تكاد تنقطع الخطبة من صخب التصفيق والهتاف، و يشحذ بذلك الهمم والأماني ويحيي آمال شعب تكابد الظروف القاسية خلال الحروب.
 

يدرك بعض من الشعب أن إرادة الغرب غلبت على الشعب والعاصمة، وصدت طريق القائد الخارق وذلك نظرا لمصالحهم ومصالح دول الجوار وليبقى المسلسل مستمرا

وفي ذلك اليوم يستضاف في محطات الإعلام بعض من المحللين والمتخصصين في شؤون القرن الأفريقي تصب آراءهم أن ملامح القائد الجديد تبشر أنه سينجز مما وعد، ولكن معدل البشريات تنخفض بعد أيام من خطبتة الأولى حين يغادر القائد إلي خارج البلاد، ويزور أولى زيارته واحدة من دول الجوار كالمعتاد، وتكثر بعدها الزيارات تلو الأخرى لأن على عاتق القائد أو له الحق طبعا بأن يحضر كل مناسبة تقام بأدنى وأقصى الأرض كنوع من السياحة والترفيه لا أقل ولا أكثر ولكن فقط تتم بدعوة حضور رئاسية رسمية.
 

و"عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان"، قد تحدث حادثة مثيرة في بقعة من البلاد يتورطها غالبا إحدى الدول المجاورة، وينتظر الشعب ردة فعل القائد والتي يتوقع أن تتساوى مع الحادثة في المقدار وتعكس في الإتجاه، ولكن بعد صمت طويل يبعث لهم ضحكة ساحرة تدمر ما تبقي من قلوب ضحايا الحادثة عبر الإعلام المحلي يعالج بها المشكلة الراهنة.

ليظهر بعدها على هيئة ممثل بارع في دوره يمثل باقي حلقات المسلسل الذي بدأ تمثيله مند ربع من القرن، وعندها يدرك بعض من الشعب أن إرادة الغرب غلبت على الشعب والعاصمة، وصدت طريق القائد الخارق وذلك نظرا لمصالحهم ومصالح دول الجوار وليبقى المسلسل مستمرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.