شعار قسم مدونات

فهل للإسلام وجهٌ آخر؟!

blog إسلام

كدرُ الماء في ركوده، وفساد النفوس في جمودها عن التغيير والحركة ودوامها على نمطٍ واحد لا تلبث تعيده يوماً تلو آخر، ولا يُذكر الجمود على صفحات الأدب والفكر إلا ذكرُ مذَمَّة، وسُألت شجرة كُسرت ساقُها فمالت بوجهها إلى الأرض، ما كسر ساقَك؟! 
قالت: لم ألِن للريح.

وكما في الجمود مفسدةٌ للحياة ومعاندةٌ لخط الزمن الذي يأبى إلا أن ينطلق إلى الأمام غيرَ آبهٍ للمتأخرين، فاللينُ إلى حد التماهي فيه مفسدةٌ أكبر، وخيارات الإنسان أكثر من أن تُحصر بين صلابة الجمادات واستغلاظها على كل مؤثر، وبين لين السوائل التي تتشكل بشكل الآنية التي تتنقل بينها، لا سمتَ يميزها ولا شكل لها تختص به.

لذلك فعند طرح مسألة التغيير أو التحديث في أيٍ من الموضوعات الفكرية، يجب مراعاة التوسط بين حافتي التطرف هاتين، وبخاصة إذا كانت دعوى التحديث تتطرق إلى التراث الإسلامي؛ لحساسية الموضوع الذي يتطرق بدوره إلى أسسٍ حياتيةٍ أخرى ومسائلَ عقدية.

لا أحد يحتمل نبرة التهديد بالإيذاء من ندٍ له، ولكن حين يُحال الأمر إلى ذاتٍ إلهية فإن التهديد يكون داعي للبحث والتفكر.

منذ شهرين تقريباً نُشرت تدوينه على مدونات الجزيرة بعنوان "الوجه الآخر للإسلام" ناقشت فيه الكاتبة الكريمة مسألة مراجعة التراث الإسلامي وتنقيحه، ومشكلة الطرح الإسلامي الحالي وأنه لم يعد مقنعاً للآخر.

بدايةً لا أختلف مع الكاتبة في مسألة التحديث ذاتها، ولكن يكمن الاختلاف في طرحها التحديثي الذي اشتمل – في رأيي – على عدة مغالطات.

في مستهل التدوينة تناقش الكاتبة الإشكالية الدعوية والترويجية للإسلام في ظل تتابع عمليات القتل باسم الدين، وأن غير المسلم لم يعد بإمكانه أن يقتنع بالحملات الدعوية التي تروج لسماحة الدين باستخدام نصوصٍ قرآنية، وهو يرى عمليات القتل والتخريب تتم وفقاً لنصوصٍ أخرى، في تخبطٍ يقع فيه غيرُ المسلم نتيجةً لانتقائيتين متساويتين في نظر الكاتبة، ومثّلَتْ على هذا باعتذار مخرجٍ فرنسي عن استكمال تصوير نص تليفزيوني عن التعايش مع الآخر في الإسلام لأنه وبعد قراءته للقرآن "لم يحتمل لهجة الوعيد له بالجحيم والحرق بالنيران فقط لكونه غير مسلم"

من المفترض أن الرجل يقرأ النص وهو يدرك أنه -وفقاً للمعتقد الإسلامي- "كلام الله المنزل" فالخلل هنا ليس في النص بل في المتلقي الذي قرأه بندية، فلا أحد يحتمل نبرة التهديد بالإيذاء من ندٍ له، ولكن حين يُحال الأمر إلى ذاتٍ إلهية فإن التهديد لا يكون محل استنكافٍ أو عرضةً للقبول أو الرد، بل داعيةً للبحث والتفكر، والتوسع في فهم المسببات والنتائج، وكمال فهم النص بضمه إلى غيره، وإحالته إلى الصحيح من القول والفعل النبوي.

فسطحية التلقي هنا ليست مسؤولية النص، والكاتبة نفسها أقرت بهذا في موضعٍ آخر حين قالت "والأصل عنده هو السيف إن قُرأت سريعاً بدون تأويل كما فعل دوميان"

ثم تنتقل الكاتبة إلى مسألة النصوص القرآنية التي تدعو إلى القتال واعتماد عددٍ من الفقهاء عليها في تأصيل مبدأ التخيير بين الإيمان والقتال في التعامل مع غير المسلمين أثناء الحروب، بل وفي بدأ تلك الحروب من الأساس.

القراءة التاريخية المجردة للحقبة النبوية الشريفة وحقبة الراشدين كإسقاطٍ عملي لتوجيهات الدين ودوافعه، كفيلةٌ بتبيان الطريقة المثلى للتعامل مع تلك النصوص، وجريانها على مجراها الصحيح وفقاً للتطبيق النبوي.

والباحث عن الحقيقة في ثنايا النصوص لن يأخذها على معناها المنفصل عن أسباب النزول وعن غيرها من النصوص القرآنية والنبوية، التي تضع المعنى المقصود على المسار الذي أُريد للنص حقاً أن يأخذَه، وتعامل البعض مع النص أو المطروح من الآراء والروايات في كتب التراث بسطحيةٍ وانتقائية ليس خللاً في المعروض بل في الباحث، وعليه يقع اللوم في صعوبة وصول الفكرة إليه أو وصول نقيضها، لأنه لم يسلك مسالك البحث الصحيحة منذ البداية ويتجرد لها.
 

منطق الكاتبة في معالجة قضية التحديث لن يجعل للإسلام وجهٌ آخر فحسب، بل سيجعل له عدة أوجه.

تم تصنيف كتب العلم الشرعي بالأساس كي تكون مرجعاً وافياً لاحتياجات طلبة العلم الشرعي والباحثين والفقهاء، فلا يمكن التعامل معها بصفتها كتب ثقافةٍ عامة مطروحةٌ للجميع لذلك وجب تنقيحها وتبسيطها، بل هي كتبٌ علمية لا يغوص أياً كان بين دفتيها كما يشاء دون معرفةٍ مسبقة بمناهج وضعها وتصنيفها، فأنا حين أفتحُ كتاباً علمياً مخصصاً لطلبة الطب ثم يستعصي عليَّ فهمُ ما فيه على الوجه الصحيح، لن أقع باللوم على الكتاب وواضعه، بل على نفسي لأنني لست مؤهلاً كفاية للبحث والقراءة في هذا العلم على الوجه الصحيح.

يتمثل الجانب الأخطر في التدوينة في إثبات ظرفية المكان والزمان ونسبتها جملةً إلى الوحي فتقول الكاتبة "حين نزل القرآن الكريم في صحراء العرب نزل حيويا متفاعلا مع الحياة وقتذاك، فكان بمثابة قانون إسعافي لمجتمع بدوي مشبع بالفوضى القبلية.. وقراءته كأنه يتنزل في القرن السادس أكثر قبولا من قراءته وكأنه يتنزل في القرن الحادي والعشرين".

فلو كان الوحي قانون إسعافي لمجتمعٍ بعينه مخصوصٌ بظرفية المكان والزمان التي يختص بها هذا المجتمع، فكيف إذاً نجح الفقه والشرع الحنيف في سياسة الأمم التي دخلت في نطاق الحكم الإسلامي في العقد الأول من انقطاع الوحي، وكيف دخلت هذه الأمم على اختلاف أعرافها وأعراقها ومشاربها الثقافية في مفهوم الأمة الإسلامية، وساهمت في بناء الحضارة الإسلامية على امتداد تاريخها، وكيف أنار الهادي – صلى الله عليه وسلم – نورَ حضارته في المدينة المنورة في العام الأول للهجرة ومن قبلها بمكة، ثم ينير قبسُها متخطياً البحارَ والقفار على أقصى الضفة الأخرى من بحر الروم في الأندلس بعد انقطاع الوحي بقرابة القرن؟

إن منطق الكاتبة في معالجة قضية التحديث لن يجعل للإسلام وجهٌ آخر فحسب، بل سيجعل له عدة أوجه بعدد العصور والقرون التي تمر عليه، والأمكنة التي يحل فيها، وإن مراعاة تغير الأزمنة والأحوال والمكان لهو صلب الفقه الإسلامي واستنباط أحكامه، ومسألة فتاوى الإمام الشافعي بالعراق وتغييرها بعد قدومه إلى مصر لاختلاف المكان والعرف لا تخفى على أحد.
 

والمغالطة التي وقعت بها الكاتبة هنا أنها أجرت قواعد التغيير والتحديث على الإسلام بجملته، من دون مراعاة خصوصية الثوابت التي لا تتغير وفقاً لأي متغيرٍ كان.

"فانطلاقاً من هذا الحديث ظن البعض تحريم الإسلام لكل إبداع.. دونما تمييز بين إبداع يخالف ويناقض الكتاب والسنة، وهي البدعة في ثوابت الدين، التي تخالف ما يجب فيه الاتباع، ويحرَم فيه الابتداع، وبين الإبداع المحمود في الفكر الإنساني والصناعات العمرانية، بل وفي الفضائل الدينية التي لا تقع في حيز المخالفة لأصدق الحديث – كتاب الله – ولأفضل الهدي – سنة رسول الله – بل ودون وعي بأن اشتمال الكتاب والسنة على "أفضل" الحديث والهدي، لا يعني نفي "الفضل" عن جميع ما لم يرد فيهما".
من افتتاحية الدكتور محمد عمارة بمجلة الأزهر عدد شعبان 1435 هـ 

على هذا يظل الدين بثوابته وقيمه التي لا يطالها التبديل، على ذات الوجه الذي تركه عليه أشرف الخلق – صلى الله عليه وسلم – يوم دُعي إلى الرفيق الأعلى، وعلى ذات الوجه يظل الدينُ إلى يومِ نُبعث، يُراعي المتغيرات براحبة الثوابت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.