شعار قسم مدونات

الصعاليك الجدد

blogs - social
قال له: "أنت صعلوك، لن أرد عليك وعلى أمثالك.." استوقفني هذا التعليق الذي قرأته قبل أيام على فيس بوك، ودفعني للتفكير في أصل كلمة صعاليك، وما إذا كانت تنطبق على واقعنا الذي نعيشه اليوم.

تقول ويكيبيديا "الصعاليك جماعة من العرب في عصر ما قبل الإسلام، عاشوا وأطلقوا حركتهم في الجزيرة العربية، كانوا لا يعترفون بسلطة القبيلة وواجباتها، فطردوا من قبائلهم. ومعظم أفراد هذه الجماعة من الشعراء المجيدين" ليست مجرد شتيمة إذاً. في عصر ما قبل الإعلام، كانت تسير المخالَفة بصعوبة شديدة، وعواقب قد تؤدي إلى الموت في صحراء مقفرة. أما في عصر فيسبوك وتويتر وسناب شات، فالقضية أسهل بكثير، يمكنك أن تحتسي كوباً من الشاي مع والدك، تهز له برأسك موافقا، وأنت تكتب تعليقاً في مجموعة ما، لو قرأه والدك لصرت في عداد الصعاليك.

يمكنك أن تقرأ عن الإلحاد في المسجد بين الأذان والإقامة، أو أن تبدي إعجابك بمنشور يصف ملتك كلها بالتخلف والجهل. في هذه المساحات الرقمية يمكنك أن تغرد خارج السرب، وأن تختار مع من تكون، لك دائما حرية الانضمام، وحق المغادرة، تضيف أصدقاء وترفض آخرين، وتكوّن قبيلتك الخاصة كما تشاء..
"ما الذي يجول بخاطرك الآن؟" يسألك فيسبوك، فتجيبه دون تردد.. هل أنت راضٍ عن حديث معلمك؟ إذا كان الجواب لا، فلتضع له تعليقا مخالفاً، ثوان قليلة تفصلك عن إبداء رأيك أمام الملأ..

يميل الإنسان بطبعه ليعبّر عن نفسه وانتمائه إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، وبما أن التواصل الاجتماعي بات حقاً متاحاً للجميع، فبإمكان كل واحد منا أن يكون صعلوكاً، ليس بمعنى الشتيمة، وإنما بالاختلاف عن المجتمع وأعرافه.. بإمكان صبي عربي في بداية مراهقته مثلاً، أن يطلق العنان لاطلاعه، ويوسع مدارك بحثه وقراءاته ومشاهداته، ثم يبدأ بالمقارنة، يلتفت حوله خارج الشاشة، فيرى عالماً ثالثاً يردد أهله شعارات عاطفية، لم تغير الواقع الرديء منذ عشرات السنوات، ثم يعود إلى بريق الشاشة فيطّلع ويتصفح، وينبهر بإنجازات حضارات العالم الآخر.

أنصاف المثقفين يتفننون في أسلوب اللعب على الخطوط الحمراء، يثيرون حولها الفوضى، وبذلك يتحولون إلى نجوم لمنصات التواصل.

هذا التناقض الحاد، يدفعه للبحث عمن يشاركه الأفكار نفسها، فكأنه يقول لنفسه: يا قوم.. هل رأيتم ما رأيت؟ هل قرأتم هذا الكتاب الرائع؟ هل أنا الوحيد الذي اطلع على هذه الحكمة؟ دعوني أشارككم أحدث ما توصلت إليه.. ثم يجد صديقاً موافقاً، وآخر معجباً، وآخر متردداً، فيأخذون بأيدي بعضهم ويتكتلون، ويعيشون عالمهم الجديد الذي صنعوه لتوّهم. يتكتل المخالفون، ويجتمعون في روابط ومجموعات، يختارون لها عنواناً يناسب مؤسسيها، ويكون جذاباً لأحبائهم.. مثل "المفكرون المستنيرون".."عربي وأفكّر".. أو قد يجدون لذة في إضفاء نوع من الخصوصية على صفحاتهم، مثل "ليبراليو المدينة الفلانية.." وقد تتمادى هذه التكوينات لتقارب في تفكيرها السخرية من الأديان والمجتمع وكل تقاليده، ولو بستار "العلم والحقائق".

والإشكالية هنا تكمن في افتقار كثير من هذه المجموعات، إلى طروحات أو مشاريع فعالة، واكتفائها بالسخرية اليومية من الواقع، والتنقيب عن كل أمر يعتبر من المسلّمات، لطرح التساؤلات الاستفزازية حوله، وإثارة الجدالات التي تجتذب آلاف التعليقات والردود، ولا تنتهي..

لا شك أن كثيراً من الثوابت والبديهيات، التي يقدسها المجتمع، تستحق إعادة النظر وفتح النقاش حولها. وقد ينجح بالفعل بعض المثقفين في طرق أبواب محظورات وهمية تعتبر من "التابوهات"، ويحاولون معالجة إشكاليات، واقتراح حلول وأفكار ناجعة.

لكن ناشطين آخرين -من أنصاف المثقفين- يؤثرون التصدي لمهمّة أكثر سهولة، وذات مردود تفاعلي أكبر، يرددون التساؤلات بشكل ببغائي، ويتفننون في أسلوب اللعب على الخطوط الحمراء، فيفتحون النقاش على كم هائل من الملفات المكدسة، يثيرون حولها الفوضى، ثم يرحلون إلى عنوان آخر أكثر جاذبية، وبذلك يتحولون إلى نجوم لمنصات التواصل، ومشوار الصعلكة يبدأ بتغريدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.