شعار قسم مدونات

التشتت وإهدار الطاقات

blogs-التشتت
في الماضي القريب كانت دوائرنا الاجتماعية مقارنة باليوم صغيرة جدا لا تكاد تتعدى محيط جغرافي معين وإن تعدته فبعد المسافات وكلفة التواصل تتكفل تلقائيا بإذابة وشائح الصلة وتردنا مجبرين نحو محدوديتنا.

 

حطت مواقع التواصل الاجتماعي في واقعنا لتصنع فارقا مهولا في كل شيء، فالدائرة الصغيرة لم تعد دائرة من الأساس بل صارت شبكة عنكبوتية شديدة التعقيد زاخرة بكل أنواع الصلات والترابطات، كذلك لم تعد التفاصيل محدودة بل صارت فيضانا هادرا لا يتوقف لحظة عن التدفق والجديد، لقد صرنا في منطلق رحب لا سيطرة لنا عليه ولا حكم.
 

بالتوازي مع هذا التغير الحياتي المهم أصبحت نظرتنا للأمور مركبة بعض الشيء وصارت رهنا لكثير من العوامل المستجدة أبرزها التأثر الذى نتعرض له ليل نهار على صفحات التواصل الاجتماعي، ففكرة ما شاردة في رأس أحدهم متلبسة بوشاح الدين ربما أو مزينة بحلى منطقية أو مكتوبة بشكل منظم؛ كفيلة بجرنا نحو اهتزاز ما في داخلنا وتبديل وتبدل ورؤية مغايرة للأشياء تعاكس ما عهدناه وحافظنا عليه.
 

نخلص إلى أن رفاهية الوصول للمعرفة -في الغالب- لا تصنع منا شيئا ذا بال، بل على العكس تؤصل فينا التواكل وتجعلنا أقل شغفا نحو الجهد والإثمار

التأثير والتأثر صار أمرا لا مفر منه، وهو ليس سيئا في المجمل طالما حافظنا فيه على منطلقنا الأخلاقي وجوهرنا الثقافي الذي يستلهم من التجارب دون أن يذوب أو يتشوه. وفي المسير نحو تفكيك المتغيرين يكفي التأثر أنه يمررنا على مساحات كثيرة من الرؤى والأفكار نعضد بها نظرتنا وننميها ونثقلها لنخلص في النهاية إلى ما يمتزج بنا ونقنع به، ويكفي التأثير أنه يحقق لنا انتصارنا الشخصي الصغير في إثبات قيمة ما نؤمن به، وفي تزكية أنفسنا بثقة ما نحتاجها على الطريق.
 

بالإضافة إلى ذلك وفي ظل هذه الأجواء المفتوحة يبرز لنا الاختيار وتوفره وكذلك كثرة عناصره كمكسب حقيقي يضاف إلى ميراث الإنسانية، لكن في الوقت ذاته وعلى جانب آخر نقابله كمعضلة عميقة تخمد فينا نزعة تقدير الأشياء، وتسلمنا إلى فتور غريب وتكاسل مستطيل يعطل علينا كثيرا من فرص الإنجاز والنجاح القريبة السانحة؛ ذلك أن الأشياء تكون ثمينة ومقدرة حين نوجدها أو نحصل عليها بعد عناء، لا أن تتوفر لنا هكذا دونما جهد !
 

فمثلا قائمة المحفوظات أو "saved" على فيسبوك تعج لدينا ربما بعدد غير محدود من الروابط والمنشورات المتفردة التي تصلح في نظرنا كشيء يبنى عليه، لكن لكثرتها وتوفرها دون جهد نرى التكاسل منا والتسويف هما سيدا الموقف.
 

نخلص إلى أن رفاهية الوصول للمعرفة -في الغالب- لا تصنع منا شيئا ذا، بال بل على العكس تؤصل فينا التواكل وتجعلنا أقل شغفا نحو الجهد والإثمار، فإن هممنا إلى إنجاز شيء ما؛ فإننا نمضي إليه عبر تجارب الآخرين نحاكيها خطوة خطوة دون أدنى خروج عن النص، ثم نفاجئ في النهاية أننا لم نصل إلى ما وصلوا إليه؛ لم نصل بالتأكيد لأن لكل إنسان معطياته الخاصة والتي تتناسب بالتبعية مع طريق واحد لابد له أن يوجده هو بنفسه لا مع طريق مستهلك يضع ذاته عليه عنوة !
 

سنكون قد قطعنا شوطا كبيرا حين نتعرف إلى قيمة أوقاتنا ونكافئها بخطط طموحة منضبطة تضمن لنا مسايرة للحياة واستمتاع بها

التشتت وتوزيع طاقتنا على أكثر من طريق هو ما يستنزفنا ويجعل محصلتنا في النهاية خاوية من أي إنجاز حقيقي، ومواقع التواصل وما تحمله من سيولة معلوماتية واجتماعية كبيرة تساهم بشكل مركز في تزكية هذا التشتت وتأصيله، أيمكن لعقلنا أن ينجز شيئا ما باتجاه أحلامنا ونحن نستهلكه ونجبره على استيعاب تفاصيل وأحداث مهولة لا قبل له بها ؟! بالطبع لا فلكل عقل مساحات استيعابه، والتي إن ملئت بكل شاردة وواردة فلا مكان بعدئذ لأي نفع.
 

سنكون قد قطعنا شوطا كبيرا في طريق ضحد هذا التشتت وإقرار التركيز ومواجهة كل هذه المعضلات حين نبدأ بتغيير نظرتنا لتلك النوافذ الافتراضية من كونها محلا للمعرفة والثقافة والارتقاء بالذات، إلى كونها مجرد شرارت بدء تطلعنا على بدايات كثيرة، بدايات تتطلب منا أن نتحدد في إحداها لنغوص فيما وراءها ببحث جاد بين دفتي كتاب أو بعمل مضن في طريق مدروس أو بمعايشة عميقة لتجارب ما تحيط بنا.
 

سنكون قد قطعنا شوطا كبيرا كذلك حين نتعرف إلى قيمة أوقاتنا ونكافئها بخطط طموحة منضبطة تضمن لنا مسايرة للحياة واستمتاع بها، وكذلك اتجاه دؤوب مثابر نحو ما نرنو إلى تحقيقه من أهداف وقيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.