شعار قسم مدونات

وتأبى الروح أن ترى الوطن قبيحاً كما تراه العين

blogs - egypt
إن أصغر شارع في مصر، قد تُكتب فيه أطول حكاية في التاريخ، في كل خطوة حكاية، ووراء كل نافذة قصة طويلة جداً تختلف عن غيرها، تتفق جميع حكاياهم على شيء واحد فقط: الوَجع.

تمر بالشارع، تشم روائح كثيرة مختلطة، الجميل منها والقبيح، يعلوها رائحة طَبخة من إحدى البيوت الصغيرة هنا، ورائحة تراب الأرض الذي يتعفّر بخطواتك الخفيفة عليه، والرائحة المنبعثة من إحدى غرف الصرف الصحي في الشارع. تمر بجانب إحدى النوافذ، فتسمع حواراً عائلياً لا يخلو من الشجار والصوت المرتفع، الذي يُبدي ما أخفته الجدران، وقد تجد النافذة مفتوحة أيضاً، لتشهد على الشجار بالصوت والصورة. 

في وسط الشارع، مجموعة صبية يلعبون، يُسمونهم أطفال الشوارع، هيأتهم مُبعثرة ومُتسخة، تتراوح أعمارهم بين السابعة والعاشرة، قد تشد انتباهك السيجارة التي تدورعلى فمهم جميعاً. أما في زاوية الشارع المظلمة، يستقر مجموعة من الشباب العاطلين، لا تستطيع تمييز ملامح وجههم من سحابة دخان السجائر والأراجيل التي تحيطهم، وأحياناً "الحشيش".

جرّدونا من كل شيء، وتركونا لنموت جوعاً، أو قهراً، أو غرقاً مثل زوجتي وطفلي الرضيع.

تمشي بضع خطوات أخرى، فتجد منزلاً بابه مُشرعاً، تكاد ترى المنزل كله من فتحة الباب الصغيرة، منزل قد يتجاوز عدد ساكنيه العشرة أفراد، في حين تعتقد أنه لا يكفيك وحدك. تجلس أمامه سيدة كبيرة، بثوبها الشعبي البسيط، تُسند خدها إلى قبضتها اليمنى، وتقضي النهار بطوله تُسلّم على المارة وتعرض الضيافة عليهم، من تعرف ومن لا تعرف.

وعلى إحدى المقاهي الصغيرة الصاخبة في الشارع، وفي ساعة متأخرة من الليل، يبدأ الرجال سهرتهم، بين لعب الورق وبعض حكايات أوجاعهم، ثم لحظات صمت يعلو فيها صوت أم كلثوم من مسجل المقهى، وبين فناجين الشاي المتتالية، والصبي الذي يُقلب فحم الأراجيل، والرجل الذي بدأ سرد حكايته مع الوجع بصوت يوحي إليك أنه يُخاطب جميع من في المقهى:

"قتلوا أخي ذو العشرين عاماً، سجنوا والدي الشيخ الكبير، واغتصبوا أختي في سيارة الأمن. سرقوا منا الأمان مع طَرقات رجال الشرطة على باب المنزل قبل تحطيمه واقتحامه علينا، صراخهم، حركتهم داخل المنزل كالمجانين وهم يبحثون عن أي شيء ليسرقوه، كل ذلك كان كافياً لجعل أخي ذو الخمسة أعوام يفزع في كل مرة يطرق فيها أحدهم الباب. سرقوا ألف جنيه في آخر مرة اقتحموا فيها المنزل، كان والدي يجمع هذا المبلغ منذ ثلاثة أعوام؛ ليحظى بنظرة واحدة لبيت الله الحرام قبل الموت.. سرقوا حلمه، وسجنوا ما تبقى من عمره في زنزانة يتسابق فيها القهر والمرض على قتله. حطموا صورة أخي الشهيد، وألقوا بمصحف على الأرض وداسوه بأقدامهم، صرخت أمي: "حراااام عليكم!" ليُجيبها الضابط: "حُرمت عليكم عيشتكم.." ثم يسبّ الدين. كان لأبي عربة يبيع عليها بعض الملابس على ناصية شارعنا، حرقوا الملابس وحطّموا العربة.. كانت هذه كل ما نملك، كانت مصدر رزقنا الوحيد، جرّدونا من كل شيء، وتركونا لنموت جوعاً، أو قهراً، أو غرقاً مثل زوجتي وطفلي الرضيع." ثم تراه يلعن الحياة ومن عليها، ويُتبعها بحسبي الله ونعم الوكيل.

أن تتعلق الروح بقطعة أرض نسميها وطن، تحبه وتسعد به رغم مساوئه الكثيرة، أن تتمسك به دوناً عن أوطان أخرى هي قطعاً من الجنة، سر من أسرار رب هذه الروح وذاك الوطن.

أما إذا رفعت نظرك للأعلى قليلاً، فستجد ألف حكاية أخرى. فتاة تقف في شرفة المنزل، أو "البلكونة" كما تُسمى، وتنشر الثياب على أحبال الغسيل التي امتدت بعرض الشرفة، وقد تسكب الماء المتبقي في وعاء الغسيل في الشارع من الأعلى بعد انتهائها. وفي الشرفة المجاورة لها، قد تجد سيدة تتحدث معها، أو قد تجدها تطلب منها حبة من البصل مثلاً لتكمل طبختها فترمي لها بها. وقد تجد طفلاً لا يتجاوز العاشرة يقف على عربة "فول" أو "كبدة" أو "كشري"، وطفلاً آخر يبيع المناديل، وصبية تبيع الفل أو الياسمين، يجوبون كل مكان، من أكبر تقاطع في المنطقة إلى هذا الشارع الصغير، يقضون النهار بطوله في الشارع لينتهي بهم المطاف ببضع جُنيهات لا تُسمن ولا تغني من جوع.

وعلى ناصية الشارع، يجلس رجل خطّ الزمن كل دقيقة فيه على ظهر كفّيه ووجهه، كل تجعيدة من تجاعيده تلك خُطت بوجع أكبر من الأخرى. يُمسك بيده اليمنى سيجارة ينفث فيها ما تبقى من عمره، ويُحدق بالشارع والمارة، عيناه فقط من تحدقان، أما عقله وفكره فقد تزاحم بألف صورة وحكاية وذكرى، ويحنّ إلى زوجته التي خطفها الموت من بين ذراعيه، ويُفكر أنها ربما أكثر راحة منه الآن، يجلس كل يوم في المكان ذاته، على نفس الحجر، ينتظر الموت، ليرتاح..

ورغم كل ذلك، فإن الروح تأبى أن ترى الوطن قبيحاً، رغم رؤية العين له صاخباً جلياً.. فأن تتعلق الروح بقطعة أرض نسميها وطن، تحبه وتسعد به رغم مساوئه الكثيرة، وقبحه الذي يراه الضرير، ويفهمه المجنون جيداً جداً، أن تتمسك به دوناً عن أوطان أخرى هي قطعاً من الجنة، سر من أسرار رب هذه الروح وذاك الوطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.