شعار قسم مدونات

"عبادة" الغرب

الكوبوي

إنّني أنتظر بفارغ الصّبر اليومَ الذي سنتوقف فيه عن "الانبطاح" للغرب، وعبادةِ مبادئهم وهالة "حضارتهم" و"تحضّرهم" المزعوم.

ربّما يكون كلامي في ما يأتي صادمًا ووجهة نظري غيرَ دارجة، لكنّني أراها مقنعةً إلى الحد الذي يرضي عقلي ومنطقي ومشاهداتي.

لقد تعوّدنا منذ الصّغر على أن نُلقّن تصوّرات جاهزة عن مدى "تطوّر" و"تقدّم" الغرب الحضاريّ، وامتدّ ذلك معنا حتّى أصبح الأمر أشبه بمرض؛ فنحن -شعوبًا عربيّةً- نجلد ذواتنا كل يومٍ أمام أتفه موقف يقوم به إنسانٌ غربيّ، وتكاد تتكسّر رقابنا من الانحناء احترامًا "لإنسانيّتهم" و"أخلاقهم".

والحال أنّ المطّلع على التّفاصيل الحضارية والثقافية والسياسيّة الخاصّةِ بشعوب ما بين اليونان وأمريكا -وأضمّ إليها شعوب الشرق الأقصى التي حاول الإعلام في السنوات العشر الماضية تهويل هالتها وتضخيمَ حجمِ إنجازِها وتقدّمِها- أقولُ إنّ المطلع على هذه التفاصيل، سيدرك تمامًا حجمَ الهوّة التي لا تُردم، ما بين المبادئ والقيم التي يدّعيها إنسانُ هذه الشّعوب، وبين واقعها ونهجها وما قدّمته للإنسان على هذا الكوكب.

وأنا هنا أهملُ الحديث عن التّطور الاقتصاديّ والماديّ الذي حقّقته هذه الدول تمامًا، إنّها بلا ريبٍ وبلا خلافٍ قدّمت للبشريّةِ منجزاتٍ ماديّةً وصناعيّةً لم تتوقف إلى اليوم، وهي تستمرّ حتّى اللحظة بغزونا بمنتجاتها واقتصادها في عقر ديارنا.

لكنّ التساؤل هنا هو عن مدى "إنسانيّة" المجتمع الغربيّ و"تحضّره"، ومدى إنصافه في التّعاطي مع "الإنسان" الخارج عن دائرته. من يقرأ التّاريخينِ البعيدَ والقريب يدرك تمامًا أنّ الشعوب الغربيّة وحكوماتِها كانت -وما تزال- الأكثر وحشيّةً في التّعاطي مع الإنسان وحقوقه وكرامته، وأنّ رؤساء حكوماتنا العربيّة ورموزَهم الذين تسبّبوا بكل الدّمار في المنطقة على مدى عقودٍ فائتة، لا ينفصلونَ بحالٍ من الأحوال عن الإرادة الغربيّة الدمويّة.

والذي يقول في هذا المقامِ بفصلِ حقيقة "الشّعوب" عن حقيقة "حكوماتها"، يُهمل حقيقةَ أنّ جيوش هذه الحكومات هي شعوبُه، وأنّ الشعوبَ هي التي تنتخب حكوماتِها وتوجّهها وتضغط على إرادتها وسياساتها، ولها القدرة على محاسبتها، بل على انتزاعها وخلعها.

عندما تساءل المفكّر سيد قطب عن هذه الهوّة الأخلاقية الموجودة عند الإنسان الغربيّ فكتب كتابًا على إثر زيارته لأمريكا سمّاه "أمريكا التي رأيت،" حُرقت مسوّدات الكتاب عن آخرها.

التساؤل هنا عن مدى "إنسانيّة" المجتمع الغربيّ و"تحضّره" ومدى إنصافه في التّعاطي مع "الإنسان" خارج دائرته

وعندما نتساءل اليوم عن الفرق ما بين الذي نراه في أفلام هوليوود، وماكينات إعلامنا وإعلامهم عن المثاليّة الغربيّة في جميع المجالات، وبين الحقائق والإحصاءات عن الجرائم والانتحار والاغتصاب والعنف والتّحرش والإجهاض والأمراض النّفسية والسلوكية والاجتماعية الدّاخلية لدى الغرب، أو بينها وبين جرائمه الخارجيّة وتدخلاته العسكرية الوحشيّة في الشعوب، لا نجد مجيبًا.

هذه الصّورة شُبّهت لي يومًا بكتلةٍ من القذارةِ والنّتن، مغلّفةٍ بشيءٍ يشبه الجيلاتين يُظهرها بصورةٍ برّاقةٍ لامعةٍ فيستر تحته رائحتها المؤذية العطنة. الصّورة هذه خلقها التّفاوت الرهيب ما بين حقيقة هذه الدّول الدّاخلية وصورتها الخارجيّة.

والتّغني بإنجازات الغرب الماديّة وإغفال حقيقته الأخلاقيّة عبر التّاريخ، هو أشبه بالاستمرار في مدح قطعة الجيلاتين والتّغزل بها، وإهمال الرّائحة النّافذة النّاتجة عن العفنِ الموجود في الدّاخل، تلك التي تخترق بعض الثقوب فتذكّرنا بجرائمَ بشعةٍ ودمويّةٍ وسجلٍ طويلٍ من الانتهاكات لا تُغفر للغرب ولن يسامحه عليها التّاريخ، ولا الحاضر.

ومما يؤكد كلامي في سياق الواقع الحاليّ ويشرحه، هو السّبب الأساسي لتقدم "ترامب" في الانتخابات الأميركيّة مثلًا، وهو أنّه كان -وما زال- يعمل بذكاء، وإن ظهر الأمر على غير ذلك.
دونالد ترامب -أنموذجًا على مرشحٍ انتخابيّ في رأس حربة الغرب أمريكا- ، يعمل من خلال حملاته الانتخابية والإعلاميّة على "دغدغة" مشاعر الإنسان الأميركي من الدّاخل، وتذكيره بسيادته وفوقيّته وأفضليّته، وأحقيته بمحاكمة الآخرين وتقييمهم ومحاسبتهم والسّيطرة عليهم.

إنّه يستخرج من دواخلهم نفسيّة الإنسان الأمريكي الأوّل؛ ذاك الذي وجد أرضه وانتقل إليها ثمّ بحث عن العمالةِ والرّق فسافر بحرًا إلى قارّة إفريقيا، وبدأ "يصيد" عمالته من سكان القارة، وأعني هنا كلمة "يصيد" حرفيًا، إذ كان يحملهم في شباكٍ كشباك الصّيد وينقلهم كالحيوانات في بواخر من ثلاثةِ طوابق أو أربعةٍ ليكونوا عبيدًا له في قارّته الجديدة.

بعض الكتب تشير في هذا الصّدد إلى أنّ عدد الذين ماتوا "اختناقًا" أو "غرقًا" خلال هذه العمليّة تجاوز ثمانية ملايين عدا عن عدد الذين ماتوا قتلًا لأنّهم رفضوا العمل والعبوديّة، وهؤلاء كان يجوز قتلهم رميًا بالرّصاص من أسيادهم، بحقٍ من القانون.

أقول إنّ ترامب، يستخرج هذا الإنسان من داخل الأمريكيّ، ولولا أنّه فعل ذلك، لما وجدنا خلال الأشهر الأخيرة هذا الحشد والتّأييد والتّقدم الهائل له في حملته العنصريّة الكريهة وخطاباته الممتلئة بعباراتٍ متطرّفةٍ إقصائيّةٍ ومنكَرة.

ولو أردتُ أن أتحدّث في هذا فسيطول الحديث عن جرائم الغرب ووحشيّته حتى عهدٍ قريب، جرائمِ فرنسا في الجزائر والرؤوس التي كانت تُقطع وتُجزّ ويقوم الجنود بالتقاط الصّور معها مبتسمين، وجرائم أمريكا في العراق، وجنودها الذين يفجّرون البشر والمنشآت بضغطةِ زرٍّ من طائراتهم دون أدنى شعورٍ بتأنيب الضّمير، وبشهادةِ أفرادٍ منهم وجرائم معتقل غوانتانامو السياسيّ وسلسلةٍ من الاعتقالات والاعتداءات غير القانونيّة وغير المعلنة.

وجرائم روسيا البشعة الأخيرة في سوريا خلال الأعوام الفائتة، إنّنا نتحدث عن حكوماتٍ وجيوشٍ إرهابيّةٍ مريضةٍ مهووسةٍ بالسّيطرة والدم، وإن كانت متستّرةً بعباءة التّحضر واحترام حقوق الإنسان
في الحقيقة وبالمختصر:

العالم الغربيّ لا احترامَ عنده إلا لنفسه، ولا حقوق للإنسان لديه إلا فيما يتعلّق بإنسانه، ولو كانت الأمور على عكس ذلك لما رأينا الملايين هنا تقتّل وينكّل بأجسادها دون أدنى التفاتٍ غربيّ أو تحرّكٍ حقيقيّ سوى تلك الشّكليات والمؤتمرات التي لا تقام إلا رفعًا للعتب كما يقولون، وحفاظًا على سمعة الغرب الأخلاقيّة المدّعاة، ورأينا على مقابل ذلك الدّنيا تقوم ولا تقعد لأجل خمسين شخصٍ أمريكي، أو اثني عشر شخصًا فرنسيًّا.

العالم الغربيّ لا احترامَ عنده إلا لنفسه ولا حقوق للإنسان لديه إلا فيما يتعلّق بإنسانه

ما أحاول قوله هو أنّ التّاريخ -والواقع الحاليّ أيضًا- يعرف الإرهابيّ الحقيقيّ في هذا العالم، والجماعات الإرهابيّة التي ظهرت في العقود الأخيرة ونُسبت إلى الإسلام لم تكن -إن كانت حقيقيّةً ومنفصلةً بالفعل عن الإرادة الغربيّة، مع ضآلة هذا الاحتمال- إلا ردّة فعلٍ لجميع جرائم الغرب وانتهاكاته وتعدّيه على الإنسان العربيّ، وسلبه أخصَّ خصائصِ وجوده وسيادته وتمزيق كيانات بلاده ووحدتها، وانتهاك اقتصاديّاتها وأرواحها، واستنزافها كليًا من كل ما تحمل سوى من تبعيّتها إليه.

وعلى اختلاف قراءاتنا للصورة، واختلاف تصوّراتنا عن أنفسنا والآخر، لا ننكر أنّ الإنسان العربي -على أثر كل هذا- بات يعاني من "تقزّمٍ" نفسي أمام حقائقَ مدّعاة متداخل، وصور معدّةٍ مسيّسة، ولا عزاء في هذا لمن غسل الإعلام دماغه، فأظهر له الغرب إلهًا عملاقًا يستحق التقديسَ وتقديم القرابين، وأظهر له نفسه هباءً يُداس بالأقدام في صراع الحضارات وتراكضها.

إن العالم، في سننه يطوي بين طيّاته من يبقى متفرّجًا مذهولًا مخدوعًا بالآخر، محتقرًا لنفسه يائسًا منها، ويصفّق ويفتح الطريق لذاك الذي يعمل بذكاءٍ ويرى أفضليّته –وفوقيّته إن لزم الأمر-، ويحترم ذاته فيفرض احترامها وإن كانت في حقيقتها لا تستحقّ الاحترام…ومن يهن، يسهل الهوان عليه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.