شعار قسم مدونات

النظرة الأخيرة في الحياة

YEARENDER 2016 APRILSyrians at the site of airstrikes in the rebel-held neighbourhood of Bustan Al Qasr in Aleppo, Syria, 28 April 2016. At least 34 people were killed by shelling and missile fire in eppo, the largest in the north of the country, the Syrian Observatory for Human Rights, or SOHR, reported on 28 April. Among those were at least 20 people killed by the airstrikes of warplanes, the identity of which is still unknown, in the neighborhoods of Bustan al-Qasr a
كلنا يعلم دور الإعلاميين في الثورة السورية ومدى خطورة عملهم، مثلهم مثل أي عامل آخر في الثورة يكافح في وجه العبودية والظلم.
 

في إحدى الأيام الصيفية كان الجو حاراً في مدينة "سراقب" الواقعة في الريف الأدلبي، كنت مع صديقي عبيدة نغطي عمل منظمة الدفاع المدني السوري بإزالة مخلفات القصف التي تسببها قصف نظام الأسد وروسيا للأسواق الشعبية، كنت أحمل قبضة اللاسلكي واستمع للمراصد، الأجواء لا تخلو من الطيران ونحن في مكان مستهدف، كنت خائفاً ذاك الحين من أن شيء سيء قد يحدث، وقلبي تتزايد خفقاته ومرتبك بشدة وأنا أحاول إقناع صديقي بمغادرة المكان، فجأة ينادي المرصد بأن الطيران قد نفذ التنفيذ الأول في مدينة إدلب، يا الهي، أنا مقيم هناك وقد تركت زوجتي في البيت وحدها، بدأ الأمر يسوء، عاد المرصد وهو يحذر الناس منادياً "الله أكبر" التنفيذ الثاني على مدينة إدلب، هنا لم أعد أحتمل نداءات المراصد بالتحصن وأخذ الحيطة والحذر، لم أعد أتمالك نفسي، قلت لصديقي عبيدة "الطيران يقصف المدينة وعائلتي هناك"، فقال لي "تذهب ؟، قلت له بالتأكيد..".

وصلنا على مشارف المدينة، وإذا بالدخان الأسود يتصاعد من وسطها، رأينا الكثير من السيارات تقف على أطراف الطريق تنتظر المراصد بأن تنادي بنهاية القصف وعودة الطيران أدراجه.

انطلقنا أنا وصديقي على دراجتي النارية، وأنا أقودها على طريق "سراقب" "إدلب" والذي يبلغ ثمانية كيلو مترات، طوال الطريق المرصد ينادي بأن حربي جديد قد دخل المنطقة منه روسي ومنه سوري وقد أصبح عدد التنفيذات خمسة، وأنا أقوم بزيادة السرعة والطريق يكاد أن يخلو من المارّة سوى سيارات الإسعاف الهارعة والمسرعة باتجاه المدينة، أصبحت الدموع تذرف من عيوني، لا أعلم إنها من الهواء المصطدم فيها أم من خوفي على زوجتي.
 

وصلنا على مشارف المدينة، وإذا بالدخان الأسود يتصاعد من وسطها، رأينا الكثير من السيارات تقف على أطراف الطريق تنتظر المراصد بأن تنادي بنهاية القصف وعودة الطيران أدراجه، وقفنا على كتف الطريق، لم يكن القصف مخيف، بل هلع الناس من صوتها حين التنفيذ، غارت الطائرة الرابعة و الخامسة واكتملت عدد الغارات للتسعة، وأنا أشاهد القصف وأنتظر وفي داخلي حسرة تحرق دماء الشرايين، لماذا لم أبقى في بيتي، لما أنا هنا .

توقف القصف وانطلقنا مسرعين باتجاه المدينة، دخلناها كانت فارغة تماماً، صوت صفارات سيارات الإسعاف والإطفاء تعلو كل شيء ولا أحد بالشوارع، انطلقت مسرعاً إلى بيتي وأنا خائف جداً وعندما وصلت ووجدته على حاله، وإن الطائرة لم تقصف الحي ذاك اليوم، اطمأنت كثيراً وكأن الجبال كانت على صدري وأزيحت، لكن الحال مختلف في الأحياء الأخرى، انطلقنا بسرعة إلى أماكن القصف، في الطريق عندما تسأل أين القصف ؟ كلهم يجيبون في "السوق" ونتقدم باتجاه السوق، وأنا على خوف من مشاهدة تلك المناظر التي تنهش من الفؤاد.

وصلنا إلى حي المسيحيين الذي يقع وسط السوق الشعبي وفيه كنيسة قديمة، دخلنا في أول زقاق ولم نصل لمكان القصف بعد، رأينا فرق الهلال الأحمر يحملون جرحى ويركضون فيهم إلى إحدى المنازل تحت الأرض أو المحلات التجارية بغية الإسعافات الأولية لحين وصول سيارات الإسعاف التي لم تهدأ عن نقل المصابين، كان الحي مليء برائحة البارود ودخان الدواليب والصراخ والبكاء، فجأة يدوي صوت قوي أنه صفارة الخطر، الطيران عاد "يا ربي إلى اين أذهب"، كل الناس تركض باتجاه إحدى البنايات، سرت معهم مسرعاً وتلجينا بإحدى الأقبية، لم أكن ارى ما بداخل القبو لم أكن أسمع الاّ بكاء الأطفال وأنين النسوة، نفذت الطائرة على أطراف المدينة ثم ذهبت بعيداً.
 

خرجنا أنا وصديقي الذي فقد الوعي جزئياً وأنا أحدثه وهو لا يرد، أسأله لا يجيب، يخرج كاميرته وينطلق لمكان الضربة التي قدمنا لتغطيتها، حملت كاميرتي ولحقت به، كان المنظر مروعاً، سيارات مفحمة وبناء قديم مهدم بالكامل وجزء كبير من الكنيسة قد هُدّم، رأيت جسماً ملقياً على الأرض والناس والمسعفين يتخطوه، اقتربت منه وتمعنت بالنظر والا برجل ملقى على الأرض وأحشاء بطنه بجانبه و وجهه ذو اللحية الشيبة مدمى، وضعت الكاميرا على وجهي وعيني على العدسة لأقوم بتصويره، وأنا أحأول التركيز في الصورة ضربت عيني بعينه ازلت الكاميرا عن وجهي فوراً، واذ به يرفع عيناه الي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ارتبكت من شدة الموقف لم أعد أسمع الا ضجيج بعيد، أغبشت عيناي لم أعد أرى بوضوح، فجأة وقعت على الأرض جالساً لم يعد بإمكاني النهوض ولا التكلم ولا الصراخ ولا أي شيء، جلست أنظر بتلك العينان وتلك الروح التي تفارق الجسد إلى مستقرها الأخير، لم أعد أملك التحمل، نسيت كل شيء في الدنيا بتلك اللحظة، تمنيت الموت.
 

استعدت بعض قواي الجسدية والعقلية، وأدركت بضرورة عودتي للمنزل، خرجت ابحث عن صديقي عبيدة ولم أجد ذاك الرجل الذي كان مستلقياً على الأرض، وجدتُ دمائهُ وبعض من أحشاء بطنه مكانه.

عادت صفارات الإنذار تصيح، وصدق من قال أن صوتها مرعب أكثر من صوت الطائرة، لكن أنا في ذلك الحين لم أكن مبالي لما يحدث ولم أكن واعياً بما حولي، وبينما الناس تهرب إلى الملاجئ قام إحدى الأشخاص بمحاولة منه بأن ينهضني لأجري هارباً لكني لم أتمكن من ذلك فقام بسحبي هو، جلست في مدخل الملجأ ما يقارب دقيقتان ودموعي قد أغسلت وجهي، استعدت بعض قواي الجسدية والعقلية، وأدركت بضرورة عودتي للمنزل، خرجت ابحث عن صديقي عبيدة ولم أجد ذاك الرجل الذي كان مستلقياً على الأرض، وجدتُ دمائهُ وبعض من أحشاء بطنه مكانه، بعدها وجدت صديقي وأخبرته بأني ذاهب إلى المنزل بحجة خوفي على زوجتي، فقال لي "اذهب، أنا سأعود بأي وسيلة، لا تهتم لأمري"، أضعت دراجتي النارية لم أعد أتذكر أين وضعتها وأنا أبحث هنا وهناك، أخيراً وجدتها وانطلقت إلى المنزل وأنا محبط تماماً، وصلت إلى البيت صامتاً مصدوماً لا أرى سوى تلك النظرات التي لم ولن أنساها كل حياتي.
 

هذا المشهد حقيقي يتكرر كل يوم في سوريا وسببه إجرام النظام السوري وروسيا وحلفائهم بحق شعب مضى في وجه الظلم والاستبداد ومطالباً بنيل حريته.
 

بعد هذا الموقف أخذت عهداً على نفسي بأني لن أقوم مجدداً بتغطية أماكن القصف، ليس خوفاً من القصف نفسه أو تكرار القصف بذات المكان أو ما شابه، أخاف تكرار ذلك المشهد أمامي فللصبر حدود، وصبري تجاوز حدوده كثيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.