شعار قسم مدونات

غدروا بكَ يا صاحبي

blogs - syria
حائراً يقفُ ذلك الثائرُ المشرّد، وحيداً لا صحبَ له ولا خلان، أتعبته سنينُ الثورةِ الطِوال، تمرّ عليه الدقائقُ والثواني بطيئة بطيئة، فكلُ لحظةٍ تمرّ هي امتحانٌ لصبره، واختبارٌ لقدرته على الصمود، فالموقفٌ فاصلٌ بين حقٍ يأبى الضياع، وباطلٍ يأبى الهزيمة والاستسلام.

ولأن الإنسانَ في مراحل قوته وشبابه، يهيّئ له أنه قادرٌ على صناعةِ المستحيل، كما لو أن الدنيا حِيزت له، كذلك كان الأمر بالنسبة لثائرنا الحر في مراحل الثورةِ الأُوَل. فقد كان يعتقد أنّ هذه الثورة ثورته وحده، فهو من يضحي ويقدمُ لها، وأنّ قرارها بيده، ونتائجها سترسمُ تبعاً لما يرغبُ وحسب؛ ناسياً أو متناسياً، أنها ثورةُ الإسلامِ في بلادِ الشام، وأنّ لكل مسلم قَربَ أو بَعُد حقّ بها وهي واجب عليه. فثورةُ الشام اليتيمة مقدمةُ الفتحِ والنصرِ لعبادِ الله المستضعفين في أرضه، وهي منّةٌ من الله تعالى لأهلِ هذا الزمان لتتحققَ أمانيهم في عيشٍ كريمٍ حر، يعبدُ فيه الله وحده، ويمشي فيه الراعي من أقصاها إلى أقصاها، لا يخشى إلا الله والذئبَ على غنمه.

من يعايش البلاء ليس كمن يعيش في النعماء، والجيل الذي يُصنع من وحي المعاناة والآلام، لا يُقارَن بجيل تربّى على حياة الترف.

أيامٌ تمضي وتتعاقب، يُدرك فيها صاحبُنا الحر أنّ الأمر أعظمُ ممّا كان يتصور، فهذه الثورة حوّلت بلادَ الشام إلى ساحةِ للفصل بين شعب يريد أن يعيش حرًّا كريمًا، وبين قوى الشرّ والاستكبار التي تريد أن تعيد الثائرين إلى أغلال العبوديّة من جديد؛ فهي تقفِ إلى جانبِ نظام فاسدٍ بالٍ، صفيقِ الوجه، مبتذلِ. ومع إدراكِ هذا الثائر لعظمِ البلاء، وقساوةِ القادم، إلا أنّ يقينه بنصرِ الله تعالى، لا يعتليه شكٌ و لا تزاحمهُ الظنون، فتراه يُعيد النظرَ والتفكير برؤيتهِ الأولى للأمور، فالفكرةُ تنضج والصورةُ ينقشع غبارها؛ فلا بدّ من عون المسلمين له ليكمل المسيرة. فالثورةُ لم تعد ملكاً لشخصٍ أو جماعةٍ أو بلد، وإنما اتسعت لتشملَ بلادَ الاسلامِ وأهله قاطبة، بعد أن تشابكت الأحداث، فالحرب واحدةٌ ((وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم كَافَّةً)).

فهمٌ عميقٌ لمساراتِ الأمور ومآلاتها، أدركها ثائِرُنا الحر على فترةٍ لا تعتبرُ في زمنِ التاريخ شيئاً، فتغييرُ أحوالِ الأممِ لا يحصى بأيامٍ، وإنما بالسنينِ الطِوال، ولعل ّكلمة عشراتِ السنين تُعبّرُ عن الشيء القليل؛ إلا أنّ هذا الوعي الثوري المتميز، لم يواكبه للأسف الإدراكَ الكافيَ والمواكبةَ الحقّة من أهلِ الإسلام، فمن يعايش البلاء ليس كمن يعيشُ في النعماء، والجيلُ الذي يصنعُ من وحي المعاناة والآلام، لا يقارنُ بجيلٍ تربّى على حياة الترفِ.

الامتناع عن نصرتك هنا يُعد خيانة لله ولرسوله ولدينه، خيانة لا تقل إثماً عن التولي يوم الزحف.

يؤمّلُ صاحبُنا الحبيب المناصرةَ والعون ممن ينتسبون لدينه، ويعتبَرون عُصبته الأقربون، فهو إن وُضِع في أتون هذه الحرب، فليبعدَ عنهم فحيحَها وريحها، وليقفَ سدًّا منيعًا دون امتدادها لهم، وهي إن تجاوزتهُ فلن تقفَ إلا في عقرِ دراهم. واللهُ اختارَ هذه الأرض على علمٍ منه لتكونَ أرضَ الملاحمِ وفسطاطَ المسلمين، كلّ المسلمين، واختار هذا الشعب ليُعليَ لهذا الدين الراية. وعلى خلافِ المعقول، تقفُ شعوبُ المسلمين ساكنةً جامدة، كأنّ على رؤسها الطير، تنظرُ لثائرنا الوحيد نظرةَ الإعجابِ والإكبار، ثم تُشيح نظرها عنه وتتابعُ حياتها الذليلة كما اعتادت، ويكأنّه لم يسقط على هذهِ الأرض مئاتُ آلافِ الشهداء.
 

ولا علماءَ الأمةِ حرّضوا المسلمين على النفير، وأخبروهم أنّه فرضُ عينٍ على عبادِ الله أينما حلّوا وحيثما كانوا، إلى أن يَظهر الحقُ الجلي وينتصرَ الموحدون في شامِ الرسول، وهُم مع واسعِ علمهم وفقههم إلا أنّهم ضاعوا بين محابٍ لحاكمٍ ظالم، أو معتزلٍ بين الكتب والمكتبات، أو من اقتصرَ فهمه على "لا تُلقوا بأيدكم" والسلام. والأمرُ لم يقتصر على تحريضٍ أو نفير، بل تعداه لقطعِ أبوابِ الخيرِ والمعونة عن هذا الثائرِ اليتيم، فتراهم أشحةً عليه، غُلت أيدهِم عن كلّ خيرٍ وإنفاق، ناسين أن خزائنَ الأرضِ والسماوات عند الواحد الأحد، وأنّه الغنيُ الوهاب، وما جُعلت هذه الأموالُ في أيديهم إلا اختباراً لصدقهم وابتلاءً بالنعماء.

وكأني أنظُر إليك يا صاحبي نظرةَ المشفقِ الحنون، لا من جَلَدِ الأعداء، فما أوهَنت سنينُ الحربِ عزائِمَك، وإنّما من غَدرِ الأحباب، فالامتناعُ عن نُصرَتك ها هنا لتُعدُّ خيانةً للهِ ولرسولهِ ولدينه، خيانةٌ لا تقلُ إثماً عن التولي يومَ الزحف، إثمٌ كبيرٌ عواقبهُ وخيمةٌ قاتلةٌ على الأمةِ وحاضِرها ومستقبَلها، ذنبٌ يَعظُم عندَ اللهِ تعالى مع كلِ دمٍ يُراق، وكلِ طفلٍ يشوّه، ذنبٌ يلاحِقهم شُؤمه مع كلِ حرةِ تُسبى، وكلِ أسيرٍ يَصرخ، إثمٌ تعظمُ بلوَاه كُلّما قرأتَ على مسامِعهم ((إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.