شعار قسم مدونات

أستاذي العظيم

blogs-المعلم

كلما نطقت كلمة أستاذي تشع عيناي بريقا، مضغة قلبي تتشنج، يصيبني الخرس، أغوص في عالمي لأحظى بشرف رؤية وجوههم الملائكية مجددا. أتذكر يوم انتقلت من فاس لأعيش فى مدينة سلا، مع أن كلتاهما وجهان لعملة الأصالة البساطة والأصالة المغربية، إلا أنها كانت تجربة جد مختلفة.

تركت فاس مودعة جيراني وأصدقائي وكأنني سأذهب بلا عودة حاملة معي الكثير والكثير من الذكريات الطيبة، انتقلت لمكان آخر لأجدني أدرس بمدرسة ابتدائية جديدة غزلت خيوط ذاكرة أكثر عمقا وحبكة،عرضتني لشحنات سلبية ممن اعتبروني الدخيلة،سارقة القلوب والأضواء والأخطر من ذلك سارقة المركز الأول الذي يعد بالنسبة لهم الخط الأحمر.
 

في خضم البراءة التي شكلت الحاجز الذي منعني من كشف ما يحاك ضدي من مؤامرات وصداقات مزيفة تتحكم فيها برغماتية عجيبة وضرورة ملحة لإسترداد الحق الذي اعتبروه قد سلب منهم بين عشية وضحاها. أطفال لم يتخطوا العشر سنوات يشتعلون تنافسا ورغبة بالفوز، حيث أن الفصل كان بمثابة حلبة ما إن يرن جرس انطلاق الدرس حتى تحبس الأنفاس وتبدأ اللعبة.
 

أستاذي العظيم لو تعلم الأثر الذي تتركه في عقل وروح كل تلميذ من تلامذتك لراقبت أدق تصرفاتك وقومتها، ولو علمت بمكانتك في أعين الأطفال والمراهقين لخجلت من زلات لسانك 

لن أنسى اليوم الذي احتدت فيه الهجومات علي، فانهال علي زملائي بوابل من الإنتقادات مزيلين الأقنعة، واصفينني بالأنانية والمتغطرسة مما أرداني باكية بعد تراكمات ضغوطات يومية. ليصل بعد لحظات أستاذي ويتقذني من موقف لا أحسد عليه.

مسح دموعي، نهاهم ودافع عني، منذ ذلك الحين صار منقذي، لقد علمني كيف أكون شجاعة ولا تؤثر بي انتقادات أي كان، أخذ بيدي لدرب النجاح راعيا إصراري على التقدم وماسحا التراجع والإستسلام من قاموسي للأبد.
 

وأنا أشاهد شريط مرحلتي الإبتدائية على شاشة مخيلتي، يهيمن على المشهد أستاذ اللغة الفرنسية عزيز، أستاذي العزيز تشجيعاتك ووجهك البشوش جعلاني أركض للمدرسة حتى أصل قبل زملائي واحظى بمحادثة قيمة تروي عطشي لتجارب الحياة المختلفة، ونحن صغار يبدو لنا العالم شاسعا مبهرا نتوق لإكتشافه ومعرفة خباياه. كنت ملاذ طفلة كثيرة الأسئلة لا تبخل عليها بجواب أو نصيحة. كم أحن لأجواء درسك المرحة ومقطوعات العود التي كنت تعزفها لنا، وكم أتمنى لو أعود بالزمن للوراء وأعيش نفس اللحظات مجددا.
 

وطبعا لن أنسى السيدة كلثوم التي طبعت المرحلة الإعدادية بخاتم الجدية، فصرامتها جعلت الفصل ينتبه لقواعد اللغة كما ينتبه لنفسه، علمتنا ان نعشق لغتنا وهويتنا وألاّ نسمح لأحد بالتقليل منها او تحريفها.  ولن يمحى من تكويني النفسي شعلة الحماس التي تعتريني ما إن اشارك أو أستمع لنقاش فلسفي فأدخل في دوامة من الإنبهار والتساؤلات وترجيح الآراء..والفضل يعود لسعيد أستاذ الفلسفة الذي تعلمنا من دروسه كيف نجمع الشكوك ونخيطها لنكون صورة أقرب للحقيقة.

 

وبينما يسترسل شريط مخيلتي في عرض الذكريات والمواقف التي عشتها في المرحلة الثانوية، يقف الشريط ليركز الضوء على الوجه المشرق لأستاذة الاقتصاد والإحصاء سمية وهي تنتقل من مفهوم لآخر بخفة وسلاسة تجعل الاقتصاد هواية نستمتع بها لا دروسا منهجية مفروضة. كانت قدوة الفتيات في الصف ومثال المرأة الطموحة المتعلمة واللاخاضعة التي تغرس في طلبتها حب النجاح رافعة سقف أحلامهم عاليا.
 

كنتم الأب والأم والمربي، وإن خانتني الذاكرة يوما فيستحيل لروحي أن تنساكم. هذا مجرد جزء بسيط مما هو عالق في دواخلي وذاكرتي تجاه أساتذتي، كل منهم هو رمز للتفاني في خدمة العلم والوطن.
 

لا نطالب بتغيير المناهج التعليمية بقدر ما نطالب بتغيير العقول و بتفعيل الضمير الأخلاقي والمهني

أستاذي العظيم لو تعلم الأثر الذي تتركه في عقل وروح كل تلميذ من تلامذتك لراقبت أدق تصرفاتك وقومتها، ولو علمت بمكانتك في أعين الأطفال والمراهقين لخجلت من زلات لسانك أو حتى تجاهل نداء خافت من أحدهم. نحن أبناؤكم وأنتم مصدر إلهامنا وقوتنا، مهنتكم أشرف المهن وأكثرها تأثيرا على مسار المجتمع، فمن وجهة نظري تقدم المجتمع أو تخلفه رهين بوعي أساتذته ومعلميه،لكم كل الثناء وعليكم جل العتاب.
 

أستاذي العظيم، أنقذنا من الجهل، أنقذنا من الضياع، علمنا ووجهنا لطريق لا تشوبه العيوب، مترفع عن الميوعة أو التطرف، نريد مجتمعا صاحيا ويقظا وقادرا على مواجهة المستقبل. مكانتكم شريفة فاحفظوها وحافظوا عليها، لا تنفروا الطالب من التعلم عبر الأسلوب المتشدد أو التجاهل المستمر. فرفعكم من قدر طلابكم والوثوق بهم وتشجيعهم لن ينتقص من شأنكم، بل سيزيد توطيد العلاقات وزيادة الإنتاجية الفكرية والإبداعية.
 

لا نطالب بتغيير المناهج التعليمية بقدر ما نطالب بتغيير العقول و بتفعيل الضمير الأخلاقي والمهني، باعتباركم قدوتنا نهتم لأمركم لأنه يمسنا كطلاب ويمس كل فرد في المجتمع بشكل أو بآخر إذا فلنغير من أنفسنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.