شعار قسم مدونات

نصف إنسان

الوحدة

من هو نصف الإنسان يا ترى؛ هو ذاك الذي يقبلُ بأن يعيش بنصف قلب ونصف دين ونصف صديق وأضيفُ أيضا -وإن لم يكن ما سأقوله علمياً- بأن هذا الشخص يتنفسُ بنصف رئة أيضا ويرى الدنيا  بإحدى عينيه ويُغمض الأخرى فهو لا يدرك حقيقة المشهد بشكل كامل.

لا تندهشوا يا أعزائي ولا تتساءلوا عن ماهية هذا الشخص فهو قد يكون أنت أو أنا أو حتى أحد والدينا أو أحد أبنائنا أو أزواجنا أو أو..

حين نعيش كأنصافٍ نسيء بذلك لخالقنا لأنه لم يخلقنا بنصف جسد ولا بنصف عقل لا حين أعطانا أعطانا حد الكمال ورزقنا بعقول

فلا تقلقوا لن أقول إلا احتمالات عن أشخاص بداخل كوكبنا الأرضي أو مجرتنا الكونية.
 
إنّ نصف الانسان هذا لا يعيّ بأنهُ لا يملك طاقة توصله لآخر دربه ومشواره؛ بل كل مخزونه هو نصف قوة تؤهله لبلوغ نصف الطريق دون النصف الآخر.

بعيداً عن كل هذا الكلام الفلسفي الذي في الأعلى؛ دعوني أقل لكم بأننا نعيش في واقعنا مواقف تجبرنا على أن نكون كنصف الانسان هذا.
 
فهل يمكن أن ينجحُ هذا دائماً، كأنّ نضحي بمشاعرنا وقلوبنا خشية خسارة صديقٍ قديم عزيز مثلاً هذا مثال فقط، وإن كانت المواقف أكثر وأبلغ من أنّ تعد وتحصى، ونطرح تساؤلات.. هل ننجحُ دائماً في محاولاتنا بالعيش كأنصاف تقتات على هوامش الغير.. لا أعتقد ذلك.

فنحن حين نعيش كأنصافٍ نسيء بذلك لخالقنا؛ لأنه لم يخلقنا بنصف جسد ولا بنصف عقل لا حين أعطانا أعطانا حد الكمال ورزقنا بعقولٍ أوصلتنا إلى الفضاء الخارجي وأوصانا على لسان أنبيائه بأن نتم أمور عبادتنا ونحسن التصرف في عادتنا ونحافظ على أخلاقنا لنصل إلى مرتبة العبودية الحقة.

ألن نخرج من كل ما سبق بفائدة؟؛ وهو أنّ العيش على الأنصاف حرامٌ في حقنا.. فيا أحباب قلبي، أليس من يعيش بنصف قلب يحكم على نفسه بالإعدام وهو حيّ خلا ما اعتدناه في قوانين المحاكم التي تجعل الإعدام حكماً مرتبطاً بالموت.

أنا أخاطب بشراً لا أشباحاً ولا جنا وأقول بنبرة صادقة.. ما فائدة الحياة التي تجعلنا نعيش كالأوراق المتطايرة في مهب الريح؛ لتقع في آخر أمرها في منتصف طريق فنكون بذلك تائهين وضالين مضلين.

دائماً أسمع من الكثير ممن يدندنون حول توقعاتهم بالنجاح وتمنياتهم بالتفوق والسعادة، ولكن أراهم وقت التنفيذ يطبقون نصف الاسترايجيات ويتركون الباقي.. 

حقاً، لو لم يكن هناك من يرضى بأن يعيش كنصف إنسان في مجتمعنا لما وُجِدتَ دور العجزة تلك في بلادنا ولا وجدت مأوى الأيتام في أحيائنا.
 

اسمحوا بأنّ أضيف لقائمة الأنصاف شيئا شهياً لأعدائنا مميتاً لنا، وهو أنّ أكثر الشرق أوسطيين أصبحوا يعيشون في أنصاف الأوطان أيضا، هم يعيشون على قارعة الكدح وطامة الحرب ولا يستطيعون التغيير؛ فمثل هذه الأنصاف ليست خيارات متاحة يمكننا إكمالها أو استبدالها متى ما شئنا لا.

لا تنتظر سعادة من وراء العيش في دائرة الأنصاف فنصف صديق لن ينجدك عند الحاجة ولن ينفعك بل سيثقل كاهلك.

ولكن أضعف الإيمان في ظل أوضاعنا الراهنة هو أن نعيش بأنفسٌ كاملة وإن كان النقص فينا فطريٌ و سمتٌ بشري، والنقصُ المفطور هذا كمال يمكننا أنّ نراه في مشاهد الحياة العامة كأن يأخذ الله من فلان من الناس نعمة الوالدين ويعطيه نعمةً أخرى تجعلهُ يستطيع الاستمرار في هذه الحياة ليحقق الغاية الإلهية من وجوده؛ وهو إعمار هذه الأرض التي ضاقت علينا بمارحبت.

لكن النقص والانتصاف الذي أعنيه في كلامي هو في مجال ما نملكه نحن فيما أُذِنّ لنا فيه بالتصرف، ولعلي أذكرُ أبياتاً علقتَ في ذهني منذ الطفولة وهي تناسب مقالنا ومقامنا: 
قم يا صريع الوهم واسأل
بالنهى ما قيمة الإنسان ما يعليه
واسمع تحدّثك الحياة فإنّها
أستاذة التأديب و التّفقيه

أجل الوهم، فالنصف هذا هو شخص يعيش الوهم والخيال الفاسد يظنُ بأنه يمكنه الاستمرار في الحياة عندما يتخلى عن نصفه الآخر وينتظر على كرسيّ اليأس مطر التغيير وهو لا يصلي صلاة الاستسقاء ولا يحفر بئر الإصرار بحثاً عن ماء حياته..

والله إن جلوسك على كرسي الانتظار يا هذا لن يُغير فيك إلا عدد سنوات عمرك، فقط السنوات، هل تعي تلك السنوات التي تمضيها على عجل وستخسرها في يوم من الأيام، ومن يدري لعل ذلك يكون قريباً إن لم تتدارك نفسك.

يا عزيز النفس يا أنت.. إن ربنا أحسن إلينا يوم أن خلقنا كاملين في عقولنا وأجسادنا وأرواحنا؛ فعيبُ علينا نحن معشرالبشر بأن نرضى بالعيش بنصف وطنٍ ونصف قلب ونصف دين مادمنا نملك مفتاح التغيير وزمام الأمور
فيا صديقي لا تقبل بأن تكون مجرد نقطة في كتاب الحياة قاوم واسعى للكمال وإن لم تستطع الحصول عليه.

ولا تنتظر سعادة من وراء العيش في دائرة الأنصاف فنصف صديق لن ينجدك عند الحاجة ولن ينفعك بل سيثقل كاهلك بالطلب والطلب، ويريد منك العطاء دون مقابل.

ولا ترضى بالعيش بنصف دين لإن من يُناقض الدين ويباغت أهله لن يذهب لا إلى جنة وإلى نار بل سيبقى مخلداً في منطقة الأعراف فأكمل طريقك يكمل الله لك درب الجنة بإذن الله، ولا تختر حياتك لتكون نصف ابن لوالديك، فهما لم ينجبا سواك أنتّ وإن كان لديهما غيرك من الأبناء؛ فهما كانا لك والدين بكل ما يملكان، فلا تبخل عليهم أنت بإكمال برك ورد جميلهم لك.

وقس على ذلك بقية الأمور فالأنصاف كالأرض الممتلئة بشوك إن لم تمشي فيها بحذر تكون قد رفعت من احتمال جرحك لأقدامك، وأدميت بذلك قلبك وبقيت تشتكي المرض والهوان لبقية عمرك.. فاحذر النصف وإن كان هذا ما رسمهُ لك مجتمعك في عقلك بأنهُ كمال رغم مافيه من نقص..

وأختم كلامي الطويل بأبياتٍ قيلت قديماً فيمن يريد الكمال وهو يعيش في واقعه على الأنصاف ويبكي لأنه لا يدري ما هي علته:

غلتِ الحياةُ فإِن تردْها حرةً
كن منُ أباةِ الضيمِ والشجعانِ
واقحمْ وزاحمْ واتخذْ لكَ حيزاً
تحميه يومَ كريهةٍ وطعانِ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.