شعار قسم مدونات

النقد في الجماعات الإسلامية.. بين النظرية والتطبيق

blog شعار الحركات الإسلامية

النقدُ في اللغةِ:
ذكرَ الفيروز آبادي في القاموسِ المحيطِ أنّ النقد: هو التمييز بين الأشياء، نقول: نقدت الدراهم أي ميزت الجيد منها الزائف.

أما النقد بمفهومه الاصطلاحي: هو دراسة الحالة وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها ثمَّ الحكم عليها لبيان قيمتها ودرجتها من حيث الصحة والصواب، وعليه فإنَّ النقد من ضرورات مسيرة الحياة البشرية، والقائل بغيابه جاهل؛ لأنَّ النقص صفة تعتري كلّ البشر دون استثناء.

وبناء عليه يتضح لنا أنّ النقد لا يكاد يفارق النهضة أبدا، بل ويرتبط بها ارتباط الرضيع بأمه، وما خلت أمة من النقد إلا وتسيدت القاع بجدارة، والناظر في السيرة النبوية يدرك جيداً عِظَمَ الدورِ الذي شغلَه النقد، والنصوص الواردة في الوقوف على أفعال الصحابة الكرام وانتقادها -والمراد بذلك التقويم- كثيرة، وقد وعى المسلمون الأوائل إلى عمق مغزى النقد، وأدركوا أنّ الأمم لا تحيا إلا به، ولا غِنى عَنه لاستقامة الحياة؛ لفاعليته في تنقية الأمة من الزيغ والانحراف والضلال، فكانت حضارة إسلامية اهتزت لها عروش الرومِ والفرسِ آنذاك.

إن اعتقاد الأحزاب والجماعات بأَنّ الإِسلام يبدأ مِن عندهم وينتهي إليهِم معضلة وطامة كُبرى.

أما بالنسبة لحاضرنا الآن، فالحال ليس كسابقِه، ولا نعرف النقد اليوم بأوج صوره إلا عند شعوب الغرب، شعوب لا تَغفلُ برهة ولا ترمشُ لها مقلة عن مراقبة حكامهم وحكوماتهم، ولا تتوانى طَرفةَ عين عن المجاهرة والبوح بالنقد ما لفظَ فيها نفسٌ، هذه شعوب لا نكذب إن قلنا بحقها: لا يسكرها إحرازُ انتصارٍ ولا يخملُها تَجرعُ انكسارٍ .

وأما نحن فالعلة كل العلة كامنة في درء النقد ورفضه كمونَ النار في الحجر، وأخصّ بالذكر معظم الأحزابِ الإسلاميةِ، حيثُ رفعوا راية التوحيد وجعلوا مفاد خطابهم المعلن للرأي العام أنّهم الإسلام، وأيّ نقد خارجيّ لهم وَقع في نفوس أتباعِهم مساساً وقدحاً بالإسلامِ.

وكل ذلك يصبُّ في إرساء أسس التعصب بأكمل صوره، ومع تفاقمه والغلو فيه داخل التنظيمات والأحزاب وارتفاع منسوبه مع تقدم الزمن، يجعل الصورة تقترب أكثر فأكثر من نظام صكوك الغفران داخل الكنيسة.

كلّ حزب منهم وضع نَفسه فوق النقد والنصح، لكنّ الفهم السليم والعميق ينافي ما درجوا عليه، إذ لم نعهدْ لا مِن سلفٍ ولا من خلفٍ أنَّ في الإسلامِ قداسة أو عصمة لأحد تجعله أعلى من النقد والنصح والإرشاد، وعندما أدرك السلف هذه المسلمات وجرت في نفوسهم مجرى الدّم في العروق، وقفوا أمام المنكر كالسّد المنيعِ غيرَ مكترثين ولا مفاضلين بصدوره سواء عن خليفة أو عن أحد العوام.

وهذا الفهم الدقيق لقولِ فاروق الأمة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي"، لذلك كان النقد من الفرائض والثوابت العليا لنشل الأمة من غياهب التخلف والرجعية إلى معالي التقدم والرقي نَشْلَ الغريقِ من الماءِ.

وأما حَول النَّقد والرأي المخالف على الصعيد المحليِّ الداخليِّ للأحزاب الإسلامية بين الأتباع وأمرائِهم، فقد أَبدع مَن شبّه مقدار حيزه داخل أُطِرِهم وبين ظَهرانيهم، بغرفةٍ لا مداخلَ لها سوى بابين، والدخول هو المقصد، فلا تفريق من أي باب يتحقق، وبذلك توضع الغشاوات على الأبصار وتُران قلوب الأتباع، ولكن بَوْنٌ شاسع بين الوهم والواقع.

وهذه الرؤية لا يراها إلا من كانت روحه نقدية، حية، يقظة، وانعدام الروح النقدية، ودخولها حالة من السبات الشتوي، يحيط الحقيقة بغشاوة، ويجعل صورتها ضبابية، لا يمكن تمييزها.

ومع تفاقم إخماد عقول الأتباع وبلوغه أعلى مراتبه داخل الأحزاب الإسلامية، وتصوير أنفسهم بعيون أتباعهم أنهم التجسيد الأمثل للإسلام، لا أبالغ إن قلت: أصبح أتباعهم ينظرون إلى النقد بحق حزبهم، كما ينظر مسلم إلى طاعن بنبوة محمد عليه الصلاة والسلام، أو ربما مشكك في القرآن الكريم. أي أن العامل المشترك هو الجزم التام بأن المقول كاذب، مع التسليم بصحة نقيضه.

إن اعتقاد الأحزاب والجماعات بأَنّ الإِسلام يبدأ مِن عندهم وينتهي إليهِم معضلة وطامة كُبرى. نفيهم أَن للحقيقَة أَكثر مِن وجه، مصيبة عظمى، ظَنّهم أَنّهم المالكون الأَوائل والأَواخر لها، وإنكارهم أنهم مجرد طَرفٍ مِن عدةِ أطرافٍ في بنائِها، دَفعهم إلى التناحرِ والعراكِ والشقاقِ مع كُل حزب دَونهم أَو كل ناقد ومخالف لهم. 

وبما أنّ الكَلام يدور حول فاعلية النقد وأثر غيابه، فلا بد من طَرْق باب التبرير، فالتقابل بين النقد والتبرير تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وعليه وَجَب استفحال التبرير في غياب نقيضه أي النقد، وما ضلّت الأمم إلا باستحكام التبرير منها، فما خلت أمة من العقلية التبريرية إلا وشَمخت في القمم، فعلينا إذن أنْ نَنقد ونرفض المنكر الظاهرَ عياناً، ما لم يَتّضح لنا دليل يُبَرره، أو ظاهر يُسَوِّغه.

فالمنهج فوق الأشخاص أيّا كانوا، ولا يَصِحّ إقامة البرهان على محاسن حزب ما، وتسويغ ما يَرتِكب من منكرات بداعي خَيْريّتِه واعتقادنا بما فيه من صلاح، والقائل بخلاف ذلك يَحطّ مِن قَدْر المنهج المَعصوم ويجعله أُلْعوبَة بيد العابثين المُغرِضين والوضّاعين، فيحيل بيننا وبين معرفة الحقّ.

وفي مقام الحديث عن التبرير، نستعرض بعض مما يردد ويقال لترسيخه، ومن ذلك: أن الاتباع إذا وجدوا خللا أو نقصا في الجماعة أو الحزب قالوا لا بد أن القيادة، مشايخنا، رؤوس الحزب، قد تفطنوا لهذا بل ودرسوه بعناية وسدوا الخلل أو أعدوا لسده، ويظل هذا مسيطرا على عقلية التبرير.

ومن ذلك أيضا قولهم: المساكتة لأجل مصلحة الدعوة، ولكي لا يطلع الأعداء على ثغرات الإسلاميين، أو ليس ذا التوقيت المناسب.
 

وا عجباه من حالهم، يَأنسون بالمجاملة والمبالغة بالمدح، وإذا وَضعناهم على منضدة النقد والفحص ضاقت صدورهم وعلت أصوات الإنكار منهم.

وحاصل الأمر أن كل هذا أفيون للعقول ووسيلة لإسكات النقاد، أي مجرد ستار على عورة التحجر والتملص من النقد، ولذا فلا غرابة أن تتراكم المشاكل، وتتركب دون أن تخطر على بال أحد منهم.

ومن وسائل تجاوز النقد وتفاديه أيضا، تبجحهم بالقول: ما البديل؟ بمعنى أدق مطالبة الناقد بتقديم برنامج بديل، وبذلك يظنون أنهم أقاموا الحجة عليه، ولم يدرك هؤلاء أن واضع النظرية غير مشروط بتنفيذها، أو ربما غير قادر بذاته على إيجاد سبل التنفيذ.

وعليه نقول إذا نُقِدَ مشروعك واتضح لك عجزه ووهنه، فقف ولا تُكْمِل، واستمرارك به ليس مسوغا، وإن لم نقدم لك حلولاً آنيّة. كالطبيب يشخص لك الداء لكنه لم يصل بعد إلى الدواء.

فوا عجباه من حالهم، يَأنسون بالمجاملة والمبالغة بالمدح -والأصل خلاف ذلك- وإذا وَضعناهم على منضدة النقد والفحص ضاقت صدورهم وعلت أصوات الإنكار منهم، واسْتَرابت أَنْفسهم، وانتقلوا من موضوع النقد إلى ذات الناقد فوقعنا في "الشخصنة"، وهي دائرة، معيار القبول فيها الانتماء وتحجب الرؤية فيها مشاعر الخلاف والاختلاف.

وفي الختام أقول كما قال يوسف سمرين في مختصره بالنقد "ولست مغرما بالمعارضة لذاتها إلا أن الأمر استفحل، وطالما بقي النقد على حياء، فإن الأخطاء لا تعرف الحياء، وموجات زلازلها تصيب الجميع، فإن كنت في هذا العصر الذي تحرق فيه العولمة كثيرا من جيوب الخصوصيات فكيف إن كان الخطر داهما ويطال الجميع!"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.