شعار قسم مدونات

في ذكرى "المعاهدة".. ألوذ بالباشا حابس

blogs-المجالي
منذ فجر اليوم وذاكرتي تفر إلى هاتيك القامة العالية، بعد الشروق بقليل تراءى لي وجهه المشرق في عين الشمس، وفي مشوار الصباح مع أطفالي سردت بعضا من تاريخه المجيد في باب الواد واللطرون، وما إن انغمست في عملي اليومي حتى أطلت شجاعته وبطولته لتساعدني في نسيان ثقل هذا اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الأول، الذكرى الثانية والعشرين لاتفاقية السلام بين الحكومتين الأردنية والإسرائيلية.

ما حدث معي طبيعي ومفهوم، فعندما تحاول الهزيمة أن تلتصق بالمرء، سيلوذ وجدانه حتما بالرجال الكبار وبشرف الذاكرة بحثا عن مسوغ لرفع الرأس عاليا، وعندما يكون الحديث عن الكبار، فإن المشير حابس باشا المجالي سيتقدم إلى الأمام قبل كل الرجال، ويحلو لكل من عرف شخصيته الراسخة مثل رسوخ الجبال العاليات في الكرك أن يروي عن تاريخه المجيد لأجيال غاب عنها النموذج.

في تاريخنا وجرحنا المفتوح، ثمة رجالات كبار ضحوا بكل ما لديهم، وقاتلوا ببسالة وفي مقدمتهم حابس، وعلى نهج حابس سار كثيرون.

رويت لصغاري كيف قاتل الرائد حابس في عام 1948 في باب الواد بالسلاح الأبيض عندما نفذت الذخيرة، حاصرته سرية إسرائيلية متسللة عندما عاد إلى موقع قيادة الكتيبة الرابعة التي كان يقودها، كان في مسدسه طلقتان، فلما سأله طبيب الكتيبة ماذا ستفعل بهاتين الطلقتين أجاب على الفور: طلقة للعدو والثانية في رأسي. فحابس المجالي يؤمن بأن القائد لا يقع في الأسر حتى لا يلحق العار بتاريخه.
 

وفي ذاك اليوم العابق بالرجولة شهر خنجره في وجوه المتسللين الإسرائيليين، وتمكن من تجميع صفوف قواته وفك الحصار، بل والهجوم وتحقيق النصر بالاقتراب من منطقة يلدا التي شكلت مركزا لتحرك القوات باتجاه السيطرة على مواقع مهمة في القدس ومداخلها.
 

مؤلم بالنسبة لحابس أن لا يكمل الطريق بعد الوصول إلى يلدا، فلم يسمح الإنجليزي كلوب آنذاك للقوات الأردنية بالتقدم أكثر، وهو ما دفع حابس إلى إرسال قصيدة لكلوب وفيها:
"ما ريد منك هدنة يا كلوب خلي البواريد رجاده ** بيوم قيض بحر الشوب والنار بالجو وقاده
خلهم يحسبوا لنا المحسوب انا على الموت وراده ** صهيون اترك لنا المغصوب وأبعد عن القدس وبلاده".

 وردد شباب القدس في معركة باب الواد بعد سقوط الكثير من الضحايا في صفوف الصهاينة: "حابس حابسهم بالوادي ** حابس وجنوده وتاد".

نعم نستذكر حابس في ذكرى الاتفاقية مع المحتل الذي يفرض صلفه اليوم في القدس وكل فلسطين، ونستذكر بفخر كبير كيف تمكن أبو سطام من أسر الإرهابي أرئيل شارون قبل 68 عاما، حيث تم اقتياده إلى المفرق أسيرا في معسكر لاعتقال الأسرى اليهود، وجرى تبديل شارون باسير عربي بعد الهدنة الثانية، ومن الذاكرة المعاصرة، أن شارون طلب لقاء حابس باشا المجالي عندما وقعت اتفاقية وادي عربة، إلا أن حابس باشا الذي لا يلتفت إلى الأسرى رفض ذلك وسخر من شارون بقوله: أسرت الكثير منهم، فكيف يطلب مني أن أتذكره!
 

هؤلاء الرجال ليسوا مسؤولين عن تشوه أنظمتهم وتبعيتها لأميركا وبريطانيا وهم حتما لا يتحملون كذب وخداع من "قاد" الحرب في 67 شكليا ولم يحارب ولم يرسل لهم طائرات لتساعدهم.

في تاريخنا وجرحنا المفتوح، ثمة رجالات كبار ضحوا بكل ما لديهم، وقاتلوا ببسالة وفي مقدمتهم حابس، وعلى نهج حابس سار كثيرون، وتؤرخ المؤلفات البريطانية أنه في لحظة الهزيمة لثلاث دول عربية إبان نكسة حزيران 1967، كان هناك قائد عسكري أردني اسمه بادي عواد متسيدا في جبل المكبر وقد طلب منه الانسحاب من هذا الجبل الأكثر أهمية في القدس بعد أن سيطرعليه وحاصر أحياء يهودية عديدة وأسر الكثير من الجنود الإسرائيليين.

وبعد ذلك بعام رسم الفريق مشهور الجازي رحمه الله ملحمة الكرامة في الغور الأردني وبأقل الإمكانيات، واستطاع أن ينتقل بنا جميعا من بقايا الهزيمة والخيبة إلى عنفوان النصر والهمة العالية.
 

هؤلاء الرجال ليسوا مسؤولين عن رذائل العرب وتشوه أنظمتهم وتبعيتها لأميركا وبريطانيا، وهم حتما لا يتحملون كذب وخداع من "قاد" الحرب في 67 شكليا ولم يحارب ولم يرسل لهم طائرات لتحميهم وتساعدهم على الثبات في أرض فلسطين.. طائراته بالأصل لم تتح لها الفرصة لحماية عاصمته وصحرائه!
 

في الذكرى الثانية والعشرين لاتفاقية السلام بين الحكومتين الأردنية والإسرائيلية.. نقف احتراما لتاريخ المشير الركن حابس باشا المجالي رحمه المولى وغفر له، ونرفع القبعات لرجال ثقاة قبضوا على جمر الوجع وقدموا أجمل ما فيهم وفينا، في زمان قاس مليء بالمؤامرات والتبعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.