شعار قسم مدونات

صهيب وحياته البائسة في سبع قصور

blogs - brother
في العام الماضي توفيت والدة صهيب بسبب مضاعفات مرض السكري، وهي في الخامسة والأربعين، وغدت حياة الفتى الصغير مليئة بالحزن والهمّ الذي لم يعبر عنه بالكلمات، صهيب الذي كان في الرابعة عشر من عمره أراد أن يكون طبيباً، كان يرغب ويريد أن يساعد المرضى والمحتاجين، رغم أنه كان يفكر بالمال أيضاً إذ أن عمله كطبيب يعني الأمان ماليا واحترام الآخرين، فتلك الأمور مهمة بالنسبة له، عندما يكبر في منطقة مثل سبع قصور، لكنه توقف عن الذهاب إلى المدرسة لأن إخوته الصغار كانوا بحاجة ماسة للاهتمام والرعاية، فأصبح بين ليلة وضحاها رب الأسرة ومعيلها. 
 

سبع قصور عبارة عن بقعة للفقر، ولعصابات الخطف والتسليب والسلاح بالإضافة إلى كونها سوقاً جيدةً لبيع حبوب الهلوسة وما يعرف شعبياً بالـ"الكبسلة"، طرقها ليست سوى مسارات في الطين، وفيها شبكة من الطرق الفرعية الرثّة والقاتمة والمليئة بالأطفال الحفاة والصاخبة بضوضاء الصياح، وبيوت الصفيح الواهية تزيد شعور الحرمان لدى سكانها، ذلك الحي الذي اسمه سبع قصور، ليس فيه شيء يمت للقصور بصلة.

كان صهيب يعامل أخويه وأخته بعاطفة معهودة لدى الآباء والأمهات، كان يشفق عليهم كثيراً رغم أنه كان بحاجة إلى من يشفق عليه.

بالعودة إلى صهيب الذي لم يكن طموحه غير واقعي في العراق، البلد الذي أتاح فرصاً للتعليم، أكثر مما أتاحته بلدان عربية أخرى. إن جرح فقدان الأم الذي أصيبت به عائلة صهيب، غيَّر كل شيء وقتل أحلامه في أن يصبح طبيباً، يعالج الناس من الأوجاع والأوبئة التي أفقدته أمه ومن قبلُ أبيه.

كانت الحياة صعبة على عائلة كعائلة صهيب، ومتطلبات العيش تبعث على اليأس في بلد كان ينبغي أن يسبح مواطنوه في ثراء النفط، كان التيار الكهربائي ينقطع بانتظام -فإذا انتظم التيار ساعة، انقطع ساعتين- وكانت إمدادات مياه الشرب أيضاً تنقطع هي الأخرى باستمرار، لتضيف عبئاً على صهيب، كان يشتري "جليكانات" بلاستيكية كبيرة للمياه، و يملؤها مقدماً بالماء ليتسنى له ولأخوته استخدامه في الوقت الذي ينقطع الماء عنهم فيه.

كان صهيب يعامل أخويه وأخته بعاطفة معهودة لدى الآباء والأمهات، كان يشفق عليهم كثيراً رغم أنه كان بحاجة إلى من يشفق عليه، صبي بعمره يحمل هم عائلة تعيش في واحدة من أكثر أحياء بغداد خطورة.

كان عليه أن يذهب يومياً إلى المدرسة الابتدائية التي كان هو طالباً فيها، ليوصل أخويه وأخته إليها، وكان عليهم أن يسيروا لمسافة تزيد عن أربعة كيلومترات ليصلوا إلى تلك المدرسة المدفونة في وسط منازل الصفيح ودور التجاوز، والمطوقة بالوحل والنتانة.

كان مبنى المدرسة قديماً ومتهالكاً، يفتقد إلى المرافق الصحية التي تفتقدها أيضا سبعون بالمئة من مدارس العراق، لم تكن المدرسة تعاني فقط من انقطاع الكهرباء والماء بل كان هناك نقص حاد في الكتب، والألواح البيضاء الخاصة بالصفوف "السبورات".

كان الأولاد من مدرسة الذكور يشاركون الفتيات فصلهن الفارغ بالتناوب، أي بمعنى أن الأولاد يأتون في الصباح، والبنات بعد الظهيرة، ثم يعدن في اليوم التالي صباحاً، ويعود الأولاد بعد الظهر وهكذا، لقد أصبح البلد الذي كان يصنف في سبعينيات القرن الماضي كأحد أفضل بلدان الشرق الأوسط والمنطقة العربية، في منظومته التعليمية يعاني من نقص رهيب في المباني المدرسية، والتي تحاول الحكومة العراقية سده عن طريق الدوام الثنائي والثالث والرباعي في 23 بالمئة من مدارس العراق.

تمكن صهيب بمساعدة من رجل محسن يدعى "حجي فاضل" من أن يفتتح محلاً صغيراً لبيع المواد الغذائية والحلويات الرخيصة، يدر عليه دخلاً، يمكنه على الأقل من سد رمق عائلته، ناهيك عن تكاليف معيشية أخرى، ولحسن حظه أن أجور مولدة الكهرباء معفي منها، كمساعدة بسيطة من صاحب المولد للعائلة اليتيمة، كما أن معلمةً متقاعدةً في الحي تكفلت بتعليم أخويه وأخته بشكل "خصوصي" ومجاناً، كان الأهالي في سبع قصور رائعين في التكافل فيما بينهم وهذه سمة تغلب على أكثر العراقيين.
 

ن طبابة القلوب أسمى من طبابة الأبدان فإن صلح القلب واستقام استقام البدن وأقام، وإلا ما الفائدة من إعمار أبدان خربةِ القلوب.

بينما يواصل صهيب كفاحه في كشكه الصغير ذو الإنارة الضعيفة والمزعجة أحياناً بقتامتها، يستمر الإخوة الصغار بالتعلم في تلك الابتدائية البائسة والمتميزة بضوضاء وصخب الأطفال، إن قناعة الأخ الأكبر صهيب تتلخص في أن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه وأصدقاءه، وهذا ما دفعه للتخلي عن حلمه بأن يكون طبيباً مرموقاً لصالح أن يواصل الصغار سيرهم بطريق حلمهم، فصهيب أبٌ ثانٍ لمازن وأيسر وجمانة.

كان من بين المهن التي يتطلع إليها إخوة صهيب، بعد أن يكبروا ويتخرجوا، التدريس، والمحاماة، فيما كانت الأخت الصغرى تريد أن تصبح صحفية.

أما صهيب فتخلى عن حلمه من أجل أن يحقق أحلام إخوته الصغار، كان يكافح من أجل توفير لقمة العيش له ولهم، فلقد كان يقول أن نجاحهم هو نجاح له ولأمه الراقدة في المقبرة بسلام.

لقد كان صهيب برعايته ورأفته وإنسانيته طبيباً لقلوب إخوانه الصغار، المفجوعة بفقد الأب الرؤوف والأم الحنون، إن طبابة القلوب أسمى من طبابة الأبدان فإن صلح القلب واستقام استقام البدن وأقام، وإلا ما الفائدة من إعمار أبدان خربةِ القلوب.

إن معاناة العائلة الطفولية تكشف حجم الفشل الذي يعانيه نظام الرعاية الاجتماعية العراقي منذ سنوات في بلدٍ كالعراق له من الإمكانات الطبيعية والبشرية؛ ما لو توفرت لدول أخرى لكانت نموذجاً مبهراً لرعاية الطفولة والشباب.

إن قدر صهيب وإخوته أنهم ولدوا في زمنٍ حكمهم فيه عصابة من السراق واللصوص، لا تكترث لكفاح ونضال ملايين العراقيين في بلد أقل ما يقال عنه أنه منجم للثروات وبنك مفتوح للأموال.

إن أكثر الدروس روعة في قصة صهيب تكمن في خاصية التماسك الذي تتمتع به الروح الإنسانية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.