شعار قسم مدونات

الكتابة حياة القلوب المنهكة

blogs - pen

في يوم السادس من أبريل عام 2015 توفي أبي بعد فترة من المعاناة مع المرض الذي أدمى جسده وقلبه الأخضر، ولكنه كان يقاوم كأوراق شجر مُعلقة على الأغصان تأبى السقوط مهما اشتدت عليها الرياح من أجل تحقيق حلمه المبتور، تمنى طويلاً أن يراه واقعاً جميلاً يشفي ندوب الحياة القاسية التي ضاقت عليه كثيراً، ولم تستطع آلامها يوماً أن تنال من اتساع رقعة قلبه شيئاً.

"نفسي أرجع البيت وأدخل المكتب أقرأ وأكتب" كانت هذه أمنيته الأخيرة التي نطق بها قبل صعود روحه بساعات، لتعود إلى مولاها وخالقها، حينما مالت رأسه إلى يمينه في لحظة واحدة ليفارق الحياة ناظراً إلى الأعلى، وكأنه يقول "يا رب أنا آتيك وقد أسلمت وجهي إليك ولا يبقى لي إلا أنت".

كانت الكتابة بالنسبة لأبي؛ الهواء الذي يتدفق إلى رئتيه المخنوقتين، والملاذ الأمن لآلام روحه.

كان رجاءه وأمله الأخير في الحياة، أن يعود للبيت ومكتبه الذي شاركه أحلامه وأعبائه ، ليقرأ ويكتب ويظلل آيات القرآن الكريم حينما ينتهي من تأملها وقراءة تفسيرها، ويستكمل حلمه النابض باسم الصادق الأمين سيدنا محُمد -صلى الله عليه وسلم-، كتابه الذي أفنى العمر فيه، والذي كان له عين الحياة ومبلغ الأمل، حتى وإن كان ذلك بيدٍ مرتعشة، وقلبٍ مُثقل مُرهق، يحمل في ثناياه أطلال العمر، وأثقال الخذلان.

مكتبه الذي يحتضن دفء لمسات يديه الحانيتين الكريمتين، فكان يزين جدرانه بطريقته البسيطة العفوية، بيد فنان وقلب طفلٍ مُحب وثائر عاشق للوطن، كان يهوى أبسط الأشياء، ويرى في باطنها جمالاً قد لا نراه نحنُ بأعيننا، فكان دائماً وأبدا يرى بقلبه، ويزين عالمه الصغير بلمسات راحة يديه المتهالكتين.

فبعد إصابته "بالروماتويد" الذي كان يأكل عظامه دون رحمة، أصيبت يديه الحانيتين بالارتعاش، وتورمت عظامه، وعُقل أنامله التي كانت تُزهر حباً وحناناً مع كل صباح جديد، ومع ذلك لم يَكُف عن الكتابة يوماً، إلى أن اكتشفنا إصابته بورم خبيث جاثم على رئتيه، تلك الفاجعة الأليمة التي مزقت قلوبنا، وأحنت ضلوعنا.

وأصبحت يداه عاجزة عن الضغط على القلم، وتتراقص الحروف وتتلاشى السطور أمام مقلتا عينيه البريئتين اللتان جافاهما النوم من فرط الألم، ليضم أوراقه إلى صدره بأنين مكتوم يتردد صداه المُنتحب في أسماعنا الباكية، ويغادره حفيف الورق الذي كان بالنسبة إليه كهديل الحمام الذي يحيي سكون الليل المخيف.

كانت الكتابة الهواء الذي يتدفق إلى رئتيه المخنوقتين، والملاذ الأمن لآلام روحه، والرفيق المخلص له، الرفيق الذي لا يتبدل ولا يتغير، ولا يغادر تاركاً سهام الغدر والخذلان في قلوب محبيه، لِيُعانق السطور بوجدانه وأوجاع قلبه، فيفترش الأوراق برحيق كلماته، ومشاعره الفياضة، التي لم ولن تنضب يوماً، كحبات الندى التي تحتضن الأغصان مع كل فجر يمحي ظُلمة الليل البهيم.

كل هذا جعلني أسأل نفسي لماذا كان أبي قُرة العين ورفيق الروح يعشق الكتابة إلى هذا الحد؟، ولماذا بقيت هي دوناً عن كل متاع الدنيا أمله ورجاءه المتبقي في الحياة؟! حتى أيقنت أنها لم تكن بالنسبة إليه مجرد موهبة أو شعور ملح يختلج صدره ويجول بعقله، فكانت له روح وسكن ووطن، ومعجزة يخترق بها قلاع المحدود وأسوار المستحيل.

فنحن نكتب لنُفصح عن ما يلامس جدار أرواحنا المثقلة والمتعبة، ولتتسع الأرض لنا بما رحبت، لنبوح بضعف أنفسنا وأخطائنا، وزلاتنا وتناقضات أرواحنا، ولِنَعُد الخُطىَ إلى الله ونرتمي على أعتاب رحمته معلنين توبتنا.

نكتب حينما لا نستطيع التحدث، حينما يجتاحنا الأنين المكتوم فيدفعنا إلى البوح بسن القلم، لنحرر مشاعرنا اليتيمة ودقات قلوبنا المرتجفة، فتختلط دموعنا الحارة بحبر أوراقنا الأسود فيزداد رونقاً وهيبة، نكتب حتى لا تموت الحياة فينا، رغماً عن سواد العالم ووحشيته، لأن الطريق طال علينا والسبل تعرجت بنا، حتى ظننا يوماً ما أنها النهاية، ليمهد الله لنا طريقاً أخر كشريان حياة دقيق يُدِب الأمل فينا.

نكتب لنرسم الحروف التي تُداعب خيالنا، وتتراقص أمامنا حتى تهدأ وتسكن أوراقنا الصماء فتنطق، نكتب كي لا ننسى ولا نُنسى، لنسجل نجاحاتنا وإن كانت بسيطة ومتقطعة، فهي ما وصلنا إليه بعد عمر من التشتت والتيه والضياع، لنمحو اليأس الذي وهمنا يوماً بأنه المستقر الأبدي والوحيد لنا.

نكتب لنُلحن معزوفة السلام التي تسكن أعماق أرواحنا والتي أرهقنا البحث عنها طويلاً، لنزور خططنا المؤجلة.

نكتب بقايانا لنمهد لأحلامنا طرقاً نفترشها بأوراق الورود، حتى وان اختلط بها الشوك، فهو لا يؤذينا بل يزيدنا إيمان وقوة وصلابة ما زلنا نستطيع أن نكتب، لنسافر دروباً قديمة أعياها الزمن وأخفى ملامحها الخوف، بعد أن اعتدنا الاغتراب عن حقيقة أنفسنا وما نريده حقاً، لندون لحظات الهزيمة والانكسار كيف مررنا بها وتخطينا حواجزها الشائكة دون أن نفقد إنسانيتنا؟!

نكتب لنُلحن معزوفة السلام التي تسكن أعماق أرواحنا والتي أرهقنا البحث عنها طويلاً، لنزور خططنا المؤجلة، وملحوظاتنا المبعثرة يميناً ويساراً على هوامش أيامنا الحلوة والمُرة، لنبوح بأوجاعنا التي اعتصرت قلوبنا بفراق من رحلوا عنا، فتركوا بداخلنا فراغ لا يملأه سوى الدعاء والكتابة إليهم، والأمل في اللقاء القريب بهم، لنعبر عن ذلك الصراع الذي يأكلنا بنهمٍ شديد، بين الخير والشر، والحق والباطل، والثبات والخوف.

نكتب لنثور كتلك النبتة الرقيقة الهشة التي تحفر جذورها في أحشاء التربة المظلمة، لنعلن عصياناً على الظلم والقهر والطغيان، لنقتلع جذور السلطة البالية، والأنظمة المريضة الشائخة، لندون لحظات الحنين الجارف إلى تراب الوطن الذي لفظتنا حدوده وضاقت علينا ضلوعه، وانتهك فساده أدميتنا.

نكتب تألماً لأغصان زيتون فلسطين التي تنزف دماً بعمر التاريخ، ولحقول ياسمين سوريا التي تلونت أوراقها بحمرة الدم القاني، نكتب حسرة على اليمن والعراق وليبيا، لنبكي عروبتنا المسلوبة التي قُطعت أوصالها، وبعثرت في مخيمات لاجئين تكتظ بأرواح تائهة تبكي فقدان الأهل ورائحة الوطن المختزلة في أقمشة معقودة تحمل حفنة من ترابه.

لنبكي عروبتنا التي انتهكت ظلماً وبهتاناً، وتشريداً ودماً يشق جوف الأرض وعنان السماء، في أطراف النهار وآناء الليل المُعتم الطويل، عروبتنا التي ستشهد علينا بأننا خُنا، وبعنا، وتخاذلنا، وتذللنا من أجل الحفاظ على كراسٍ زائلة، وعروش خاوية، ومصالح بجلود متلونة، سيراً وصعوداً على جثث شهدائنا، وحطام أحلامهم ونعوش شبابهم، دون أن يرف لنا جفن.

نكتب لأن الكتابة وحدها هي الباقية على شواهد قبورنا، وجدران السجون الموحشة التي تنفست الصعداء وتزينت بقناديل هتافات الحرية.

نكتب لأنها الوسيلة الوحيدة التي لم تحرمنا منها ويلات الحروب والقتل والدمار، فهي بالنسبة لنا أقوى من كل طلقات الرصاص المدوية، وقذائف الصواريخ العنقودية، والترياق لكل طعنات الموت وصناعته، لندون تاريخ أمم صمدت، ولم تجنح للركوع سبيلاً للنجاة برعب وذل وانكسار، كلقمة العيش المستساغة في حلق الوحوش الكاسرة، التي لم تشبع أو تكتفي يوماً.

نكتب لنصرخ بحق من لا قلم له ولا صوت، لنتنفس شهيقاً وزفيراً حُراً، لنحرر دمعاتنا الحبيسة، وننفض عن أجسادنا رماد الذل الأسود الذي التصق بجباهنا، وأمحى ماء وجوهنا، حينما ماتت نخوتنا منذ عهد مضى.

نكتب لأن الكتابة وحدها هي الباقية على شواهد قبورنا، وجدران السجون الموحشة التي تنفست الصعداء وتزينت بقناديل هتافات الحرية، تلك السجون التي لم تتمكن أغلالها الصدئة وجلاديها، من تكميم أفواه لا تخشى في الحق لومة لائم، فYن غاب القلم عنا قهراً، فهناك ألف وريد ووريد نكتب به، ونستخلص منه حقنا في الحياة لآخر قطرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.