شعار قسم مدونات

وإنْ اغتربتَ فاسأل

blogs-اتصل

فَتحتُ التلفازَ كعادتي أُقلّبُ محطاتِه على عَجل، لا يستوقِفُنِي شيءٌ ولا يَشدّني خبرٌ لِأُلقي إليه مَسمعي، وبينما كنتُ أقلّب المحطات مرّت صورةٌ لفتاةٍ جميلةٍ على الشاشة فعُدت إلى القناةِ رجوعاً سريعاً لأَستوضِحَ من تكون! وما قصَّتها!.. كانَ الخبرُ بآخِرِه حينَ قالتْ المذيعة "وها هي زهرةٌ جديدةٌ قدْ ذَبُلت فليرحمها الله"، لم أفهم شيء سوى أن الفتاة قد توفيّت لكنْ، "كيف؟ ولماذا؟ وأين؟" كنتُ لا أزالُ أجهل كلَّ تلكَ التفاصيل.
 

وجهُ تلكَ الفتاةِ ليسَ غريباً عليّ، أشعرُ أنّي أعرِفُها لا بَل أنّي قدْ رأيتُها حقاً في وقتٍ مضى لكنْ لستُ أذكر أين، انتظرتُ رأسَ الساعةِ الجديدة لأسمَعَ نشرةَ الأخبارِ منَ البداية. ترقّبتُ الخبرَ الذي يتحدّث عنها.. إلى أن قالت المذيعة "استشهادُ فتاةٍ عشرينية بأيدي جنودِ الاحتلال على حاجز زعترة، وعندما ذكرت اسم الفتاة كانت الصاعقة! تلك الفتاة ابنة صديقتي هدى! كيف غابت عن بالي؟! يبدو أن الأيامَ تسرقُنا من بعضنا حقاً، فعَشْرَةُ سنينٍ من الغربة أنستني ملامحَ "سمر" الطفلة الشقيّة التي كانت هي وابنتي لا تفترقان أبداً.
 

سُرِقْتُ من وطني ليسَ لأنّي لا أحبّه بل لأنّي قدْ فُجِعتُ حتّى اكتفيت، وكانتْ الغربةُ خلاصي الوحيد للنسيان ونفضِ الهموم

عدتُ إلى غرفتي وبحثتُ عن ألبومِ صوري القديم، الذي التقطتُ كلَّ صوره عندما كنّا نعيشُ في فلسطين قبلَ أنْ يحصلَ زوجي على وظيفةٍ جديدةٍ في بلادِ الغربة. معَ كلِّ صورةٍ كنتُ افتحها كانت الذكرياتُ تعصِفُ بصدري كهواءٍ باردٍ أشبه بذاك الذي نشعرُ به عندَ الخوفِ في قاعةِ الامتحانات، رأيت صوراً جمعتني بهدى في المسجدِ الأقصى وأخرى لفتاتين تلْهُوانِ بملابسِ الصلاةِ الكبيرةِ عليْهِن، رأيتُ في ابتسامتنا شيئاً منَ الصدقِ والمحبةِ والسعادة.
 

تذكرتُ كيفَ كانت هدى دائمةَ الاتصالِ بي عندما اغتربتُ ثمَّ انقطعتْ اتصالاتُها عندما انتقلتُ لبيتٍ آخر ونسيتُ أنْ أُعطيها رقمي الجديد. أغلبُ مكالماتِها كانت في وقتِ الأعياد، كانت تبكي من شدة الشوق إلي . وفي كل مرّة، كنتُ أحدّثها عن جمال البلادِ الجديدة و تحدثني عن المآسي التي آلتْ إليها الحياةُ في بلادي.. لا أذكُرُ أنّي هاتفتُها مرّة كنتُ كثيرةَ الانشغالِ بتكوين علاقاتٍ اجتماعيةٍ جديدة في هذه البلاد، وأصبحتُ في كلِّ مَرّة اقتربُ من غربتي ابتعد عن وطني أكثر.
 

سُرِقْتُ من وطني ليسَ لأنّي لا أحبّه بل لأنّي قدْ فُجِعتُ حتّى اكتفيت، وكانتْ الغربةُ خلاصي الوحيد للنسيان ونفضِ الهموم. استوقَفتني صورةٌ أخرى، تلك "سمر" تحملُ في يدها دمية تُهديها لابنتي، أَجَلْ إنَّها الدميةُ التي مازالت "منى" تضعها على الرّف الذي يكتظُ بالروايات المفضّله لديها، لطالما اعتقدتُ أَنّ الدميةَ هديةٌ منّي لابنتي عندما كانت صغيرة لكنها كانت دمية سمر.
 

هي شمسٌ و سماءٌ واحدة تُطِلُّ على غُربتي وبِلادي وما بين هنا وهناك مسافةٌ كبيرة كان سَيُلغيها يوماً اتّصالٌ صغير

بحثتُ في دفترِ أرقامي علَّني أجدُ رقمَ هدى فربما لازالت تحمل في قلبها تجاهي ودّاً يُعَزّيها برحيلِ ابنتها الوحيدة. خَجِلَة، مُضطَرِبة، دقاتُ قلبي تتنازع أيُّها يصرخُ بصوتٍ أعلى، هل حقاً وبعدَ كلٍّ تلكَ السنين سَتُسعِدُها مكالمتي؟! أم أنّي خسرتُ بكلتا يديَّ صديقةً كانت ابتسامتُها عندما تراني أصدقَ من كل مشاعرِ الدنيا. وجدْتُه، أخيراً وجدتُ رقمَ هدى، هل يعقل أن تجيبَ الآن؟! لا، لا أعتقد، سأصبرُ يومين وأخاطبُها وفعلاً هذا ما فعلت.
 

رنّ الهاتف مرتين قبل أن يجيبَني صوتٌ مبحوحٌ كأنَّ أوتارَ حنجرتِه قدْ تقطّعَت: "ألو.. هدى؟؟. نعم، مين معي؟! أنا أمل..، مين أمل؟ صاحبتك اللي سافرت فرنسا" حوارٌ قصير قبل أن أسمع تنهيده طويلة خَتَمَتها بقول "أكان يجب أن تموتَ ابنتي كي تذكريني؟!" صمتٌ أحدقَ بي وأصابَ لساني بالشلل فأيُّ كلمةٍ سأقولها بعد الذي قالَته لنْ تُبَرِرَ موقفي فلَمْ تَخرُجْ من فمي كلمة سوى رحمَها الله، عزاؤُك أَنَّها في مكانٍ أفضل مِنْ وطني وغربتي..
 

أَغلقتُ السمّاعة و فَتحتُ نافذتي حيثُ الشمس مُشرِقَة والسماءُ صافِية، هي شمسٌ و سماءٌ واحدة تُطِلُّ على غُربتي وبِلادي وما بين هنا وهناك مسافةٌ كبيرة كان سَيُلغيها يوماً اتّصالٌ صغير. "إنْ نَسيتُم مِنْ أينَ قدِمتُم ومَنْ كانَ ينتظِرُكُمْ وعُدتُم ذاتَ يومْ لنْ تجدوا أحداً بانتظاركم، ستعانوا الغربة من جديد، لكنْ هذه المرّة ستكونون داخلَ الوطن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.