شعار قسم مدونات

دفتر فتاة في أزقة حلب

blogs - syria Eid
1
مثل غصن كسرته غارة الليلة الماضية، كنت منبطحة وممددة على الأرض خلف الستارة أتشمم الرائحة التي تركها على جسمي مغتصبي، كان جسيماً أشعثَ، في نفسه قتر الرماد. أخذني. نهض عني ومضى.
 

كانت أمي تبكي بكاء مراً، شهقت يمامة البيت، ترنح الياسمين، تمطت لهفة الخوف، تعثرت كلمات. كنت دائخة من جرحي الجديد، غيمات حزينات ملئن عيني، تباعد بكاءُ أمي واضطرب شهيقُ اليمامْ. لوهلة لاح لي بأني تلاشيتُ، ما عدتُ موجودة. وفي الريح تلاشت كذلكم أمي. الكَون مغتصبي! لن أحدثكم أكثر عن ذلك الرجل، عن رغبته وانجرافه، عن سلاحه عن رجفة البئر في عينه، لن أحدثكم لأنني أريد أن أنسى. أريد لأمي ألا تذكرني، أريدها أن تجتمع مما قد تلاشت إليه، أن تعود مجدداً لما يمكن أن يسمى بالحياة. أريدُ أمي التي كانت.

حدقت فيها فأشاحت لأنها كانت تتفادى ظل الخوف المرتعش ما بين شفتيها. لوهلة بدا لي أن كتفيها يشتعلان وأن أكفها تحترق

تساندت أمي حتى نجحت في الوقوف. كانت تحدق في قطرات شرفيَ المسفوح. كانت لا تقوى على الوقوف، تميل طوراً إلى ناحية ثم لا تلبث أن تعود تارةً فتضع ثقلها على قدمها الأخرى لتميل على الناحية الثانية. كان الوقت ضحى، الضوء باهر والظل أسود والحر خانق.

ثم ارتجفت عبر النافذة نسمة خائفة فسعلت أمي سعلات ثلاث طويلات. عندها تأكدت بأن ألمها قد بلغ مداه وأن صحتها قد ساءت إلى أقصى حد. حاولت التحديق فيها: ارتعدت خطوط جبينها أولا، ارتعد أنفها ثم ارتعدت الشفاه. ثم من بعد سرت القشعريرة المرعبة إلى عنقها ثم إلى كتفيها ثم إلى صدرها ثم إلى بطنها فرجليها فقدميها. كانت تنهار في خوف في غضب في انفعال؛ وراحت تهذي "لقد خلقنا لنفقد شرفنا، لقد خلقنا لتدهسنا الأجسام والأقدام، خلقنا لتحرقنا براميل اللهب في حلب".

ودون أن تنظر إليَّ غمغمت "لقد فضك الرجل الغريب، مضى وكأنه قد شرب جرعة ماء!" لحظتئذٍ كانت منحنية بشدة، كنت أسمعها تتنفس بصعوبة بالغة، أوشكت أن تهوي لولا أنها أمسكت بطرف خشبة ضلفة النافذة المكسورة، النافذة الخضراء وتشبثت بها ثم اندفعت خلف الستارة، بقيت على الأرض منتبهة لوجودي ممتلئة به. دوى صوت انفجار بعيد وانعقد الوهج، عندها رأيت شمس الضحى تعرق ويفيض منها العرق. ولمحت الظلال تلين ثم تبتل بوهج أحمر.
2
ظِل أمي، ظَل كلامها بيني وما بين الهيولي. وهذي البراميل تترى، هي الحرب تشتدُ لكن أمي لم تزل تتكلم كف وهج البراميل وهلة لكن أمي لم تزل تتكلم، ضج الوهج فسكتت لحظتئذٍ وراحت تحدق في الظلام. زفرت ثم مضت خارجة حتى الباب. صرخت ثم عادت تحدق في الوجه الكالح للضيعة الأخيرة.

لوقت طويل ظلت تحدق لكن دون أن تخرج منها كلمة واضحة، ثمة أصوات غامضة طارت منها لشجر الليل المرتعش. لاحت بعيدة في قميصها الأسود، لوجهيَ الآن ظهرها، تصلب كيانها فلاحت جامدة ثم لبثت كذلك لا تريم. وعندما استدارت عائدة بعد نحو الساعة بدت لي محاجرها أكثر ظلمة وسكونا. كانت خدودها مجرحة بالملح، بالدموع.
 

لكم يستمر نزفي لكن أمي لا تعرف كيف يكون الدواء. إنها فقط تتكلم وتتكلم. تتألم. بعينيها دخان حلب الحزينة، بخديها دموعٌ من ملح ودم.

اقتربت مني، حدقت فيها فأشاحت لأنها كانت تتفادى ظل الخوف المرتعش ما بين شفتيها. لوهلة بدا لي أن كتفيها يشتعلان وأن أكفها تحترق. خطت. كانت تتحرك بطء، أعطتني ظهرها مجدداً، مشت حتى آخر البيت. دخلت المطبخ فتبعتها. وقفت أرقبها إذ انهمكت تجهز لنا وجبة الليل من الخبز اليابس، من بعض عظام سُلقت أكثر من مرة، من بعض بقايا لا اسم لها التقطها أنا من قمامة الزقاق، زقاق بيتنا.

ناديتها: أمي! لكنها لم تجب. أوقدت الفحم في الموقد البلدي بقشة الكبريت الأخيرة مع قطرة داكنة كانت قد تخبأت في قعر زجاجة الكيروسين الخضراء اللون. وضعت على الموقد طوَّة ألمنيوم مسودة لتغلي ماءً ليس عليه إلا الملح. طوال الوقت ظلت محاجرها مظلمة بينما اغرورقت عيناها وانطلقتا تفيضان بدموع حمراء. جد حمراء! الدموع! دموع أمي حمراء حمراء! بغتة تصاعدت أنفاسها ثم عادت تتكلم من جديد، تتكلم مع نفسها.

تكلمت زمناً، زمناً طويلاً وفي اللحظة التي بدأ بخار الماء يتصاعد ألسنة ملتوية من بطن طوَّة الألمنيوم المسودة المتألمة من جمر الموقد بدأت هي تترنم بالغناء، غنت طويلاً، طويلاً جداً. كانت تغني لتهرب من وجودي قربها، من نفسها من دموعها. نعم كانت تهرب بصوت كسيرٍ بعيدٍ تائهٍ غامضٍ وخافتْ. أنصتُ فسمعتها تشهق إذ تردد: "أنا وحبيبي في جنينة والورد خيم علينا".

3
لم أرَ ملكاً قد وشحته عقود الياسمين. لم أرَ ملكاً يمد جناحين أخضرين. لم يهدني المدرس طبشوراً ملوناً، لم يهدني صاحب الدكان صندوق حلوى، لم يهدني بائع الألعاب دمية أشاركها الوسادة. لم يهدني الخياط بلوزة تزدان بياقة بيضاء. لم يأخذ مني أحد ذكرى الاغتصاب. لكم يستمر نزفي لكن أمي لا تعرف كيف يكون الدواء. إنها فقط تتكلم وتتكلم. تتألم. بعينيها دخان حلب الحزينة، بخديها دموعٌ من ملح ودم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.