شعار قسم مدونات

هل سيكون العراق خالٍ تماما من الكفاءات في المستقبل؟

blogs - iraq
في ظل الظروف الراهنة التي عصفت البلاد في الآونة الأخيرة، شهد العراق رحيل الكثير من العقول والكفاءات العلمية، وربما الأمر ليس بجديد، فمنذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي تزايدت أعداد الراحلين بشكل كبير جدا.
 

الهجرة شملت الكثير من المبدعين والأساتذة الجامعيين، والمفكرين والأطباء، وأصحاب العلم والمعرفة، الذين تأسست أغلب الجامعات العراقية على أيديهم، وخرجوا أجيالا لا يستهان بهم، نجدهم يهاجرون موطنهم يوما بعد يوم بشكل أعداد هائلة ملفتة للنظر. ربما ليس السبب العوز المادي والاقتصادي جراء قلة رواتبهم، فالكثير منهم كانوا متواجدين في زمن النظام السابق رغم قلة رواتبهم التي لا تتجاوز بضعة آلاف من الدنانير، ولكن الأمر الذي أجبرهم على الهجرة هو التهديد والقتل الذي يطالهم جميعا بلا استثناءات، وهو مدروس من قبل جهات مختصة لمحاولة إفراغ البلد من جميع الذين يخدمونه في شتى المجالات.

العلم في العراق يُحمَل على نعش، في حين كان العراق قبلة للعلم والعلماء، فمن كان قبل يَحمِل علما ولم يلقحه في العراق فلا علم له أو يكون علمه ناقصا

لنعود قليلا بسرد تاريخي حول هذا الموضوع بمطلع الثمانينات، حيث ازدادت هجرة الكفاءات بسبب الحرب العراقية-الإيرانية، ولولا منع السفر الذي فرضته الحكومة آنذاك عام 1982 جراء إدراكها تصاعد الهجرة لاستمرت الهجرة بأعداد مضاعفة. وقد امتنع الكثير من الطلبة الذين أكملوا دراستهم في الخارج من العودة إلى العراق في هذا العقد بسبب عدم رغبتهم في التجنيد الإلزامي في سوح القتال بالرغم من أن الكثير منهم قد أرسل لإكمال دراسته في الخارج على نفقة الدولة.

وفي عام 1988 تصاعدت أعداد اللاجئين العراقيين في الدول الصناعية، بعد السماح بالسفر عند توقف الحرب العراقية-الإيرانية، أما في عام 1989 بلغت الهجرة 3901 شخصا، بحسب الكتاب الإحصائي السنوي للمفوضية عام 2001 ، وهذا الرقم مرتفع مقارنة بالسنوات السابقة. وأوروبا الأخرى نجدها قد بلغت 24750 بحسب المفوضية جنيف 2000 وذلك خلال الفترة 1980 إلى 1989 موزعين على 15 دولة، وأعداد أخرى توجهت إلى دول عربية وغير عربية وأقامت بها، ولكن ليس كلاجئين، وهذه الأعداد لا يمكن معرفتها بدقة. فمثلاً بلغ عدد المهاجرين العراقيين إلى الولايات المتحدة 1960 شخصا خلال الفترة 1981 إلى 1990 بحسب المجموعة الإحصائية للولايات المتحدة عام 2001. وفي الكويت كانت هناك تقديرات تشير إلى وجود 100000 عراقي قبل غزوها، أغلبهم هاجروا كذلك إلى دول أوربية أو مجاورة بسبب ما تعرضوا له من معاملة سيئة بعد تحرير الكويت، لذلك من المؤكد العثور وسط هذه الأعداد الكبيرة على أعداد كثيرة جدا من الكفاءات في مختلف التخصصات والمجالات.

أما مطلع التسعينات من القرن العشرين شهد العراق هجرة كثيفة غير مسبوقة، شملت الكثير من الكفاءات بسبب غزو الكويت عام 1990 وما نتج عنه من اندلاع حرب الخليج الثانية، والانتفاضة في العام التالي آذار1991 وفرض العقوبات الاقتصادية الصارمة على العراق، وأيضا الكثير منهم تركوا البلاد بسبب العوز المادي وقلة دخلهم المحدود، إذ كانوا يعملون في مجالاتهم المختصة صباحا ومساء، يعملون في الأسواق وغيرها من أجل كسب قوت يومهم، لذلك هذه الأسباب قد تكون أساسية في توجه الكثير من الكفاءات، بالأخص أساتذة الجامعات إلى الدول العربية، خصوصا ليبيا واليمن والأردن، حيث كانت نسبة العراقيين مرتفعة بشكل لافت للنظر في جامعاتها، وكذلك دول أخرى متعددة.
 

إن العقود الثلاثلة الماضية شهدت نزوح أكثر من ثلاثة ملايين شخص خارج العراق، شملت الكثير من العقول والكوادر المثقفة

ويقدر عدد أفراد الجالية العراقية في بريطانيا والولايات المتحدة بأكثر من نصف مليون، فطبقا لتصريح رئيس الوزراء البريطاني السابق "توني بلير" في آذار (مارس) 2003 بلغ عدد العراقيين في بريطانيا 350 ألف. وعلى افتراض أن نسبة 5 بالمئة من هؤلاء من الكفاءات والكوادر، فإن عدد الكفاءات العراقية في الحقول العلمية المختلفة يبلغ على أقل تقدير 25 ألف شخص في تلك السنوات، ويعمل عدد كبير من تلك الكفاءات في الحقول العلمية المختلفة في بريطانيا والولايات المتحدة. وطبقا للسجلات الطبية البريطانية، فإن عدد الأطباء العراقيين العاملين في المستشفيات البريطانية يقدر بحوالي 2000 طبيب في جميع الاختصاصات.

أما الذين هاجروا منذ عام 2003 وإلى يومنا هذا، فعلا طامة كبرى بالنسبة للعراق وأجياله القادمة، هاجروا لأسباب كثيرة كالطائفية والوضع الأمني المتردي والاعتقالات العشوائية، وعدم احترامهم كما حصل للأطباء أثناء تأدية واجبهم الإنساني بالاعتداء عليهم من قبل البعض من أهالي المريض، ولا يوجد من يردعهم ولا قانون يحميهم، وغيرها من أمور تتعلق بواقع حالنا السيء الفوضوي. المحزن بالأمر أن العقود الثلاثة الماضية شهدت نزوح أكثر من ثلاثة ملايين شخص إلى خارج العراق، بحثا عن ملاذ آمن ونسمة من الحرية ولقمة عيش كريمة. وهم إذ تركوا البلاد بأجسادهم قسرا، لكن نفوسهم وعقولهم لا زالت تتمسك بتربة ذلك البلد. الهجرة الجماعية شملت هجرة الكثير من العقول والكوادر العراقية المثقفة، التي كان يمكن لها أن تساهم في دعم مشاريع التنمية والتطوير إن سنحت لها الظروف بذلك.

والآن أرى أن العلم في العراق يحمل على نعش، في حين كان العراق قبلة للعلم والعلماء، فمن كان قبل يحمل علما ولم يلقح علمه في العراق فلا علم له أو يكون علمه ناقصا، هذا ما عرفناه من تراث أجدادنا وأسلافنا العلماء رحمهم الله. وداعا أيها العراق، ونبقى نتأمل في رجوع العراق إلى سابق عهده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.