شعار قسم مدونات

قضايا المرأة بين التجديد والتقليد

blogs - wom
في زورقنا الصغير الممزق الشراع، الذي لا نكاد نجيد توجيه دفته بين هذه الأمواج المتلاطمة من الهجمات على ثقافتنا وإرثنا الحضاري، تتأرجح محاولتنا بين التشبث في أخشابه المهترئة وبين ربط أنفسنا بطوق نعتقد فيه النجاة والقفز بعيدا عن هذا الزورق. فبعد فشلنا السياسي المريع في التحرر، وقيام وحدتنا وهزائمنا الاقتصادية المريرة في إقامة دولة الرخاء والنمو، وتوفير فرص العمل الكريم، لم يبق لنا سوى زورق صغير من النظم الاجتماعية التي تحكم علاقتنا، كمحكومين بها ومحتكمين إليها. 

أحكام الشريعة تقسم المجتمع حسب الدور والوظيفة في مؤسسة ما يسمى بالأسرة، فالشرع يأمر الابن وهو الذكر للامتثال لأمر أمه وهي الأنثى، بل يجعل برها أوجب من بر أبيه وهو الذكر.

بدأت هذه الأمواج بمحاولة فرض سيطرة تيار بعينه على الإعلام والإعلان ووسائلهما، وخلق حالة من الفصام بينه وبين واقعنا وبيئته، حتى أن المشاهد لهذا الإعلام بحالته الدرامية والفنية عموما ليسائل نفسه أين يحدث هذا في العالم العربي؟ أو بعبارة أخرى أدق معنى هل حقا هذا الإعلام عربي؟ وليس أدل من حادثة ظهور الإعلامية السيدة خديجة بن قنة بالحجاب على قناة الجزيرة وما حمله ذلك من إثارة من موجات من التهليل والتحميد، بل ودعاوي الإنجاز، واي إنجاز في ظهور امرأة محجبة على قناة تلفزيونية تبث لشعوب غالب نسائها من المحجبات، إلا أن هذا أيقظنا على حجم الفجوة المصطنعة بين الإعلام والشارع العربي.
 
لم تنته هذه الموجة، حتى تلت موجة تالية أشد ارتفاعا من دعوى الحاجة إلى إصلاح الخطاب الديني والتجديد فيه، وهو المطلوب قطعا، ولكن حين تقتصر هذه المحاولات على طرح قضايا ما يسمى بقضايا المرأة يحق لنا السؤال عن السبب. خصوصا ونحن لا نزال نسمع هذه الأصوات العالية لراكبي هذه الموجة، كأن كل قضايانا قد اختزلت في حجاب المرأة وقوامة الرجل، وما هو المقصود بالضرب وما هي كيفيته، وما هو النشوز أصلا، وهل التعدد سنة؟ أم رخصة؟ وغيرها..
 
وبين مزاعم هؤلاء المدعيين للتجديد في هذه القضايا، وبين المتشبثين بهذه الأمور على حالها مع وضع بعض المحسنات اللفظية، والمبررات لها تختلق لنا معركة مع طواحين الهواء، تشغل البث المباشر والفضاء الالكتروني، بعد ما ملأت الدفاتر والكراريس قبلا، لكن الأعجب والأكثر لفتا للأنظار، هو عدم مساس هؤلاء وهؤلاء، بأي نص يتعلق بالحاكم والطاعة المطلقة في المنشط والمكره في الاستبداد، وما دونه من ألوان الفساد وإن كان هذا ليس بمستغرب بحق المتشبثين بالقديم دون تمحيص المدعيين للتسلف مع علمنا بموقف السلف الحق من هذا الأمر، وليس أدل عليه كما أرى من موقف أهل المدينة من يزيد وحادثة الحرة الشهيرة وكذلك ثورة القراء على عبد الملك بن مروان وواليه الحجاج وغيرها، التي تدل على موقف السلف الحق إلا أن الغرابة تكون في حق راكبي موجة التجديد أدعى وهم الذين أثقلوا أسماعنا بضرورة إعادة النظر بالتراث ونقده، على أسس العلم الحديث وعلوم الاجتماع المعاصرة، لكننا حين نجدهم يجددون لا نجدهم يتطاولون إلا على مقاس حجاب المرأة، وحدود قوامة الرجل، وحق المرأة في العمل الذي يتجاهلون أنهم في مجتمعات لا يجد الرجال فيها عملا يليق بهم لأسباب يجهلونها أو يحاولون تجاهلها.
 
ولكن إذا نظرنا للقضية بتجرد نجد أن الفريقين قد فاتهم شيء هو الأهم من وجهة نظري وهو روح النظرية الإسلامية ذاتها وموقفها من المرأة والرجل فالناظر إلى أحكام الشريعة وأوامرها السمحة يجد أنها لا تقسم المجتمع إلى قسمين حسب النوع، وإنما تقسم المجتمع حسب الدور والوظيفة في مؤسسة ما يسمى بالأسرة فالشرع يأمر الابن وهو الذكر للامتثال لأمر أمه وهي الأنثى بل يجعل برها أوجب من بر أبيه وهو الذكر، إلا أنه يأمر الزوجة وهي الأنثى للامتثال لأمر زوجها الذكر، كما أمر بالتسوية بين الأولاد سواء كانوا ذكورا أو إناثا ما خلا الميراث. 

إلا أن هذه النظرية الواضحة جعلت القيادة العامة إن صح التعبير في يد الرجل –الزوج- وألزمته بالقيام على أمر الأسرة بالعموم وكلفته بقيادة مركب الأسرة إلى بر الأمان فلم كان الاختيار للرجل لا للمرأة تفسر النظرية الإسلامية لنا ذلك أيضا على أنه اختيار الله منذ بدء الخليقة حيث خلق الله آدم أولا ومنه خلقت حواء وله وحده، وسجدت الملائكة كخليفة للأرض، وهو من علمه الله الأسماء، لم تشاركه بذلك حواء، لكن المعصية حينما وقعت حصلت منهما معا، فهبطا سويا، وما يؤكد على هذا المعنى أن الوحي كان يتنزل على آدم وحده دون حواء، وبعد آدم لم يتنزل الوحي إلا على الذكور من أبنائه في إشارة واضحة لهذا الاصطفاء.
 
وعلى هذا جرت المجتمعات البشرية كلها قبل الإسلام، وإن اختلفت درجات تدخل هذه القيادة العامة وتسلطها على أمر المجتمع، حتى كانت في جاهلية العرب تسمح لهم بارتكاب جرائم استباقية إن جاز التعبير، حفاظا على قيم الأسرة كوأد بناتهم. لكن حين جاء الإسلام ضبط هذا التدخل في إجراءات تتابعية ثلاث فقط، هي الوعظ والهجران والضرب غير المبرح. فإن لم يكن، فالفراق بالطلاق الذي قيل لنا أنه أبغض الحلال.
 

هذه الهجمة تدعو الرجال للوقوف على مسؤولياتهم، وأن يكونوا قدوة في أفعالهم لأهل بيتهم، ليكونوا قوامين بالقول والعمل، بالمنع والتطبيق.

لكن حين جاءت المادية الحديثة، ونظرت للبشر على أنهم وسائل للانتاج متجاهلة أبعاد الطبيعة والروح، أصبحت أهمية الرجل والمرأة كل منهما قائمة على القدرة على الإنتاج المادي، وعدم التفرقة في الملكات أو ما يسمى بالشروط البدئية لكل شخص، بل أصبح الإنتاج هو معيار التفوق الوحيد بين البشر جميعا، دون الاهتمام بكيفية ذلك وأخلاقيته، هنا ظهرت هذه المشكلة باعتبار أن لكل فرد إنتاجه دون الحاجة للتكافل في مؤسسة الأسرة، ولما يكون على من ينتج أن يتشارك مع غيره فتولدت الحاجة للمساواة في الفرص والحقوق، حتى يصبح التساوي في الإنتاج ممكنا الأمر الذي بدوره غذى النزعة الفردية للمجتمع، وجعله يتحرر من قيود الأسرة والالتزامات تجاهها، فكان ما نراه من تفكك اجتماعي في تلك المجتمعات وتبعاته من تأخر الزواج، وانتشار العلاقات الجنسية، والإباحية الخارجة عن الشرعية، وشيخوخة المجتمعات، والآلاف من اللقطاء ناهيك عن حالات الخيانة الزوجية، بل تحول الرجل والمرأة حين يبلغون من الكبر عتيا إلى أشخاص غير مرغوب بهم إلا في مآوي العجزة إن وجدت، فلا قيمة للإنسان إلا بالإنتاج المادي، فأي مجتمع هو ذاك وأية قيم يراد لنا تبنيها.
 
وفي المحصلة، لا يمكن لنا أن نرى في المس بهذه القضايا وطرحها بهذا الشكل إلا محاولة جديدة لاستباحة منظومتنا الحضارية وإخضاعنا الفكري لهذه الحضارة الرأسمالية المادية البحتة بل هي محاولة لإفقادنا آخر مأوى لرجولتنا وإفقادنا للمكان الوحيد الذي تكون لنا فيه كلمة مسموعة وقرار حاسم وتحويلنا من رجال يقيمون أسرا هي اللبنة الأولى للمجتمع الصالح إلى حيوانات تقضي وطرها وتمضي دون أي مسؤولية فالرجل هو السور الذي لا زال موصدا أمام أوكار الانحلال والانفلات الأسري.

لكن هذه الهجمة الشرسة على الأسرة وبوابتها تدعونا إلى دعوة الرجال للوقوف على مسؤولياتهم وأن يكونوا قدوة في أفعالهم لأهل بيتهم ليكونوا قوامين بالقول والعمل، بالمنع والتطبيق .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.