شعار قسم مدونات

في حربنا مع البكتيريا.. البكتيريا انتصرت!

A lab technician works at the "microinjection area" inside Sun Yat-Sen University-Michigan State University Joint Center of Vector Control for Tropical Disease, the world’s largest "mosquito factory" which breeds millions of bacteria-infected mosquitoes, in the fight against the spread of viruses such as dengue and Zika, in Guangzhou, China July 28, 2016. Picture taken July 28, 2016. REUTERS/Bobby Yip

من منا لا يعرف البنسلين Penicillin؟ الدواء المعجزة الذي شفي بسببه ملايين الناس من أمراض وأوبئة فتّاكة منذ اكتشفه ألكسندر فليمنغ عام 1928من القرن الماضي، والذي ساهم في قلب موازين الحرب العالمية الثانية بسبب مساهمته العظيمة في معالجة جرحى جنود الحرب من العدوى والالتهابات التي كانوا قبله يذهبون ضحيّتها.
 

لقد كانت المضادّات الحيوية على مرّ عقود طويلة سلاحنا الأكثر فتكاً بالبكتيريا المسبّبة لأمراض خطيرة كالكوليرا والديفتيريا وحمّى التيفوئيد والطاعون والسلّ ومرض الزهري والتهابات السحايا وتسمّم الدم، وغيرها العديد من الأمراض التي استنزفت البشر لقرون طويلة.
 

البكتيريا تصبح في نهاية المطاف مسلّحة -بشكل طبيعي أو مكتسب- بجينات تعطيها خصائص تقاوم تأثير المضاد الحيوي عليها

لكنّنا اليوم نقف على شفا حفرة من خسارة هذا السلاح العظيم بسبب العبثية في استخدامه والتي أدّت بنا إلى مواجهة بكتيريا مقاومة لجميع أنواع المضادات الحيوية، وقف أمامها الأطباء والباحثون عاجزين تماماً. وقد أعلن الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما في آذار 2015 عن إطلاق برنامج وطني لمكافحة البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية معتبراً إياها تهديداً للأمن القومي.
 

وقد صرّح قائلاً "إن المضادات الحيوية الفعالة هي جزء حيوي للحفاظ على أمننا القومي، إنها تنقذ حياة جنودنا الجرحى في معاركهم، وتمنع انتشار العدوى في مجتمعاتنا، وهي سلاح محوري لمواجهة الإرهاب البيولوجي. إنها، ببساطة، ضرورية لضمان صحة شعبنا وشعوب العالم في كل مكان، لذلك علينا أن نعمل بكلّ ما أوتينا من قوة لضمان بقاء المضادات الحيوية بفاعليتها. لقد أنقذت هذه الأدوية العظيمة عدداً لا يحصر من البشر خلال القرن الماضي، وقد حان دورنا لنحرص على إبقاء دورها في إنقاذ الناس لسنوات أخرى قادمة".
 

وحقيقة أن يصبح ذكر البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية أمراً متداولاً في المحافل الدولية كأزمة تهدّد البشرية لهو أمر جلل ينذر بأزمة عظيمة.

لكن ما هو المضاد الحيوي؟
المضاد الحيوي هو مركّب كيميائي يستهدف جزءاً محدداً من إحدى العمليات الحيوية الأساسية في الخلية البكتيرية ليعطّلها ويسبّب بذلك إيقاف نموّها و/ أو قتلها.
 

كيف تصبح البكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية؟
إنّ البكتيريا مخلوقات عظيمة تتمتّع بقدرة كبيرة على التطوّر والتكيّف بأقل خسائر ممكنة. ويترجم ذلك واقعياً بطفرات جينية في شريطها الوراثي الطبيعي، أو اكتساب جينات وصفات خارجية من خلايا بكتيرية أخرى تساعدها على مقاومة الضغط الذي تخضعها له المضادات الحيوية. نوه من التعاضد الاجتماعي البكتيري ضدّنا، مؤامرة جرثومية.
 

إنّ من واجب الجهات الحكومية تأمين الدعم الكافي للمرافق الصحيّة لتوفير الرعاية والاستشارات الطبية بأسعار معقولة حتى لا يضطر المواطن "لتطبيب نفسه بنفسه"

ويظهر أنّ مؤامراتهم تنجح إذ أن البكتيريا تصبح في نهاية المطاف مسلّحة -بشكل طبيعي أو مكتسب- بجينات تعطيها خصائص تقاوم تأثير المضاد الحيوي عليها. ومن الأمثلة على ذلك إفراز نوع من الإنزيمات التي تكسّر المضاد الحيوي وتجعله غير فعّال إطلاقاً، أضف إلى ذلك أنها تتسلّح بـ "مضخة" تضخ المواد الضارة لها -ومن ضمنها المضاد الحيوي حكماً- إلى خارج الخلية! كما وتستطيع أيضاً تغيير أو التخلّص من "البوابة" التي يستعملها المضاد الحيوي للدخول إلى داخل فريسته.
 

لكن ما الأخطاء التي أدّت بنا إلى هذه الحال؟ يمكننا تقسيم الأخطاء إلى ثلاثة مصادر: الطاقم الطبي، الجهات الحكومية، والأهم، المواطن العادي.
 

1- الطاقم الطبي:
وتتلخّص الأخطاء في هذا الإطار في الإسراف بوصف الأطباء للمضادات الحيوية لمرضاهم حتى عندما لا تستدعي الحالة الطبية ذلك، كأمراض فيروسية مثلاً كأغلب حالات الزكام، أو الأمراض التي تكون بالفعل بكتيرية لكنها تشفى من تلقاء نفسها، إذ يحبّ بعض الأطباء أن يتناسوا دور جهازنا المناعي الجبّار في القضاء على الجراثيم إلى حد معيّن.

هذا بالإضافة إلى تقصير الأطباء في الاطلاع الدائم على الإحصاءات التي تبيّن التغيّرات في حساسية البكتيريا المسببة للأمراض المعدية تجاه المضادات الحيوية في بلادهم والرقعة السكانية التي يطبّبونها. أضف إلى ذلك الصيادلة الذين يصفون المضادّات الحيوية لزبائنهم وهم لا يحقّ لهم مهنياً تحرير وصف طبية مكتوبة أو شفوية! ناهيك عن بيع المضادات الحيوية للمريض دون وصفة طبية من طبيب مسجّل لدى الجهات الحكومية.
 

يبدو أنّ الموجة الحالية تنبّئ بزوال قريب للمضادات الحيوية كسلاح في معركتنا ضد البكتيريا المسببة للأمراض المعدية، وسننتقل إلى حقبة ما بعد المضادات الحيوية بأسلحة جديدة ما زالت أفكاراً قيد التطوير

2- الجهات الحكومية:
إنّ من واجب الجهات الحكومية تأمين الدعم الكافي للمرافق الصحيّة لتوفير الرعاية والاستشارات الطبية بأسعار معقولة حتى لا يضطر المواطن "لتطبيب نفسه بنفسه" أو الإستعانة بآراء غير المختصّين لأن الحال لا تسمح بأكثر من ذلك! وقد أهملت حكومات الدول النامية كل المعايير الدولية المتعلّقة بتشريع قوانين تجرّم العبثية بوصف وبيع المضادّات الحيوية، التي قد تصل إلى إقفال صيدلية بالشمع الأحمر في بلدان كوكب أوروبا الشقيق! أضف إلى ذلك التقصير الكبير تجاه العامّة بنشر التوعية حول استعمال الأدوية والمضادات الحيوية بشكل صحيح ينفع ولا يضرّ.
 

3- المواطن:
عزيزي المواطن، تذكر عندما ارتفعت حرارتك لأكثر من يومين فتناولت أقراصاً من المضاد الحيوي من على رف الأدوية في البيت حتى شعرت بتحسّن بعد يومين أو ثلاثة؟ لا تفعل ذلك مجدداً. أتدري أنّك لم تقضي على البكتيريا -هذا إن كان سبب المرض هو بكتيريا وليس فيروس أو طفيلي مثلاً!- بل قمت وضع ضغط عليها ثمّ أزلت الضغط عنها حالما شعرت بتحسّن مما أعطاها الفرصة لاكتساب مقاومة ضد الدواء الذي استعملته ضدّها؟ تأكد عزيزي المواطن، بأنّ الجرعات التي سنصح بها الطبيب أو الصيدلي ليست اعتباطية بل هي نتيجة أبحاث مضنية إن خالفتها تسبّبت شيئاً فشيئاً في عواقب لا تُحمد.

ختاماً، يبدو أنّ الموجة الحالية تنبّئ بزوال قريب للمضادات الحيوية كسلاح في معركتنا ضد البكتيريا المسببة للأمراض المعدية، وسننتقل إلى حقبة ما بعد المضادات الحيوية بأسلحة جديدة ما زالت أفكاراً قيد التطوير من قبل الباحثين، عسى أن نستطيع من الآن إلى وقت تصريفها في السوق أن نطيل بأعمار مضاداتنا الحيوية ولا نخسر الكثير من الأرواح.
 

دامت الجراثيم الشريرة عن أجسادكم بعيدة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.