شعار قسم مدونات

الغرفة

blogs-الغرفة
"Room" هو فيلم يحكي قصة فتاة اختطفت وحبست لمدة 7 سنوات في غرفة، خلالها أنجبت طفل عاش معها في هذه الغرفة لمدة 5 سنوات، أمضت 4 سنين منها محاولةً إقناع صغيرها أن هذه الغرفة بتفاصيلها، الخزانة، السرير، المرحاض، حوض الاستحمام، الطاولة، النبتة الذابلة، والسجادة الرثة، هي العالم كله. استطاعت بعدها الفرار بصغيرها، وهنا تبدأ التحديات لكليهما، باستكشاف العالم بصورته الطبيعية مجدداً والتعامل معه.
 

لا أخفيكم أني لم أتوقف عن البكاء طوال فترة مشاهدة الفيلم، فهذه القصة ببساطتها وأدائها المتقن، أجابتني عن الكثير من تساؤلاتي التي لم أكن أفهمها. لست متأكدة فيما إذا كان كل من البشر له "غرفته" الخاصة، إلا أنني واثقة من أن هذه الغرفة موجودة الآن في حياة معظم العرب، وخصوصاً السوريين.
 

إلا أنني في كل لحظة انقبض فيها صدري من إضاءة المنزل ورائحته التعيس، وفي كل إهانة تحملتها في سبيل الاستمرار بكسب قوتي، وفي كل خيبة أمل، ولحظة عجز، وتجاهل للأخبار.. كنت أفقد وأنسى نفسي

في قصتي الشخصية، الغرفة كانت تركيا ولبنان وقبلهما عدة مدن سورية على امتداد رحلة اللجوء وعدم الاستقرار، منذ فراري من حمص حتى وصولي إلى كندا. لقد عشت في هذه الغرفة مايقارب الخمس سنوات، وبالرغم من أن فكرة العيش في مدن تعبق بسحر الشرق كاسطنبول وبيروت قد تبدو لك جذابة جداً، إلا أنها بالنسبة للاجئ سوري، ليست أكثر من غرفة "سجن".
 

ورطة البحث عن عمل، حاجز اللغة، الوضع الغير قانوني، غلاء المعيشة.. جميعها تقودك إلى القبول بأي عمل للهروب من كابوس الوقوع في حاجة الناس، وغالباً ماتجد نفسك في النهاية، عالق في شراك إحدى الوظائف الاستغلالية مقابل أجور منخفضة وفي ظروف سيئة للغاية.
 

وبالرغم من أن الله أكرمني بالحصول على باب رزق يعطيني قوتي ومسكني، إلا أنه لم يكن باب رزق جميل دائماً، والأهم أني لم أكن لأملك خياراً آخر بسبب ماذكرته سابقاً. في هذا الوقت، كنت أرى يومياً على فيسبوك أخبار صديقاتي اللواتي أنهين دراستهن الجامعية، كنت أرى أحياناً صور حفلات التخرج مع الرداء والقبعات التي لم أكن لأحلم بأكثر منها!
 

كنت أرى أيضاً أصدقاء آخرين ممن أتيح لهم إكمال دراستهم الجامعية في تركيا أو أي مكان آخر، بدعم عائلي أو بالحصول على منحة، ولم تكن أي من تلك الخيارات متاحة لي أيضاً. أذكر تماماً حينما رأيت إحدى هذه الصور في العمل، فبكيت وبدأ زملائي بمواساتي، وحينها كعادتي، جلدت نفسي وألقيت باللوم عليها بالتأخر عن قريناتي.
 

لقد كنت حبيسة الغرفة التي ألقيت بها فجأة مع ملايين من السوريين أمثالي، عملي الذي طالما مقته، وبيتي القبيح الذي لم أكن لأتخيل يوماُ قبل 2011 زيارة مايشبهه لساعة واحدة! لكنني وأختي، كنا نحاول دائماً إلصاق صورنا على جدرانه المتسخة لإخفائها، وترتيبه وتنظيف أثاثه المستعمل الرث قدر الإمكان، حتى نستطيع النظر إليه. حقوق أصبحت أحلام ويئس لا مفر منه. لم نكن نسمح لأنفسنا بالبكاء أو الشكوى، كيف هذا والآلاف يقطنون الخيام في الصحاري أو الجبال، يفقدون أحبائهم، يغتصبون، ينكل بهم. أما نحن، نملك العيش في هذه الغرفة التي تمدنا بما نحتاج لإطالة فترة تعاستنا أكثر!
 

بدأ بعدها العالم يشيخ في نظري، وتقلصت أصقاعه ليغدو طريقي اليومي من بيتي وإليه، والذي كنت أمضيه تأملاُ لنفسي فقط، لم يعد يعنيني العالم وتعقيداته ليفعل ما يشأ، فقد اعتدت على غرفتي أخيراً. ومع أنني، نجحت تماماُ بإيهام نفسي بأن منزلي أجمل من قصور اسطنبول العثمانية! وبأني محظوظةً جداً بالحصول على عمل يؤمن لي أجرة المنزل وحاجياته.

إلا أنني في كل دقيقة أمضيتها بالبحث عن ملابسي بين الحقائب يومياً، في كل لحظة انقبض فيها صدري من إضاءة المنزل ورائحته التعيسة، وفي كل ساعة أمضيتها في عملي الذي لم أحب ولم أملك الخيار في تغييره أو تركه، وفي كل إهانة تحملتها في سبيل الاستمرار بكسب قوتي بنفسي، وفي كل فظاظة تلقيتها من بعض السكان المحليين لأنني سورية، وفي كل خيبة أمل، ولحظة عجز، وتجاهل للأخبار، وتعامي عن الواقع، كنت أفقد وأنسى نفسي.

 

وانتهى بي المطاف، أني أحببت هذا النمط من الحياة! أو هكذا اعتقدت، حتى عندما أخبرت بحصولي على الفيزا وموعد سفري القريب لم أتوقف عن الشكوى لأصدقائي بأني أريد البقاء! لقد كنت كما الصغير "جاك" في الفيلم، الذي ولد ونشأ في غرفة، خائفة ومحبطة من فكرة مغادرتها، معتادة عليها ومرتاحة بها.
 

الآن وقد فتح لي باب الغرفة، أدرك أنني لربما تحررت فأشعر بالسعادة، وهذا مايؤرقني! فكما تقول بطلة الفيلم في بعض المقاطع "من المفترض أن أكون سعيدة جداً، لماذا أنا هكذا؟" نعم، قبل مشاهدتي للفيلم اعتقدت أنني أعاني مرض نفسي أو فوبيا، أخبرت معظم أصدقائي عنها: "لا أستطيع التوقف عن البكاء عند الشعور بالسعادة وإدراك فكرة أني أملك منزل جميل ودافئ مجدداً، وفرص بالتعليم والعمل ووضع قانوني.. إلخ".
 

في الواقع كل منا ممن غادر حبسه المؤقت، يشعر كما "جوي" بطلة الفيلم بأنه كان أقوى وأصبر في خضم ظروفه العصيبة، والآن وقد كتب له النجاة، لم يعد قادراً على مواجهة أتفه المشاكل

حتى أنني كما "جاك"، أحياناً أحس بالراحة لفكرة العودة إلى الغرفة، وأشتاق لها، إنها تسكنني وتسحبني إليها، كيف لا وقد اقتات على أملي وأحلامي وصبري لخمسة سنوات. لكن لا عودة بعد الآن، لا يمكن أن تكون "الغرفة" هي نفسها مجدداً، فقد فتح الباب. أذكر الآن وكلي فهماً، أحد أصدقائي حينما هاجم إسطنبول بحدة، فيما كنت لا زلت عالقة هناك وغارقة بأوهامي التي أرسمها لنفسي، اغتظت وكأنما هاجم أحد أفراد عائلتي، لكني أشاركه مشاعره الآن، فقد كان ينظر من بعد إلى غرفته القديمة، وذكريات البؤس تنقر في رأسه، كما هو حالي الآن غالباً.
 

في الواقع كل منا ممن غادر حبسه المؤقت، يشعر كما "جوي" بطلة الفيلم بأنه كان أقوى وأصبر في خضم ظروفه العصيبة، والآن وقد كتب له النجاة، لم يعد قادراً على مواجهة أتفه المشاكل. وتفسيري لهذا، أن الخوف هو شعورك الحقيقي في الشدائد، أما الشجاعة فهي ماتفعل، وفي حالتنا الشجاعة هي مانحن مجبرين أن نفعل، الآن وقد امتلكت رفاهية الاستسلام للحزن والكآبة، بالطبع سوف ترفع رايتك البيضاء في وجه أبسط العقبات. لا أحد يغادر غرفته كما هو حاله عندما دخلها أبداً.
 

والآن، ماذا عن الناجين من الأطفال السوريين؟ هل سيستطعيون فهم العالم بلا حرب؟ ماذا عن المعتقلين لسنوات؟ هل مازالو يحلمون بالخروج من غرفهم؟ ماذا عن الأمهات الثكالى؟ هل سيخرجون للعالم يوماً ما مجدداً؟ ماذا عن آلاف اللاجئين في المنفى؟ متى سيودعون تفاصيل غرفهم السابقة في دواخلهم؟ كم منا لا زال بغرفته الآن؟ وكم مننا تحرر منها لكنه لم يعد قادر على التعامل مع العالم مجدداً؟ وكم منا مازال بغرفته وقد نسي العالم حتى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.