شعار قسم مدونات

هل نظام أردوغان علماني أم إسلامي؟

Supporters of Turkish President Recep Tayyip Erdogan wave national flags as they listen to him through a giant screen in Istanbul's Taksim Square, Turkey, August 10, 2016. REUTERS/Osman Orsal/File Photo
وفقا للدستور الحالي لتركيا نظام الحكم علمانيّ، بمعنى أَنَّ النظام الحاكم بمقدروه أن يعرَّف نفسه بالانفصال عن الدين أو بالحياد تجاهه، أو حتى بالالتزام بإخراجه من المجال العام، ولكن ليس بمقدوره أن يعرف نفسه دينيًّا. ولكن البعض من العرب، خاصَّةً الإسلاميين، يتصوَّر أنَّ النظام في اتجاهِهِ إلى أن يكون نظامًا إسلاميًّا، فور أن تسنح الفرصة لأردوغان وحزبه. ويمكن أن تعد تصريحات الرئيس الحالي للبرلمان التركي، قبل خمسة أشهرٍ تقريبًا، إشارَةً إلى أن بعض قادة النظام لهم تصور بأن يكون النظام أكثر "إسلاميَّةً" مع الوقت، فرأى أنه ينبغي أن يكون لدى تركيا "دستور ديني" وأن "لا مكان للعلمانية" في الدستور الجديد المزمع صياغته في تركيا.

من حكام العرب والمسلمين من يستخدم الرمزية الدينية أحيانًا بصورة تفوق ما يستطيعه أردوغان، بالنظر إلى العوائق الدستورية التي تفرض عليه قيودًا في هذا الصدد، ولكن لم تُقدم تلك الدول نفسها باعتبارها إسلامية.

لم تصدر تصريحات من مسؤولين العدالة والتنمية أو حكومته، بأنه يحكم باسم الإسلام، أو أنَّه يسعى إلى بناء نظام قانوني مستند إليه، أو إلى الشريعة الإسلامية. ولَكن هل هذا وارد؟ تحول النظام الحاكم في تركيا إلى نظامٍ إسلاميٍّ؟ بمعنى أن تكون الشريعة الإسلاميَّة مصدر التشريع، أو تحل بصورةٍ أو بأخرى محلَّ الدستور مثلًا، وتؤطر كل القوانين. المعلن أن السلطة غير مستعدة لذلك، ورفض بعض قيادات العدالة والتنمية بوضوحٍ هذا الاقتراح من رئيس البرلمان، واعتبروه رأيًا شخصيًّا، ناهيكَ عن الأحزاب والقوى المعارضة له.

هل يتبنَّى قطاع في المجتمع هناك هذا التصوُّر؟ بعض استطلاعات الرأي تشير إلى أن من يتبنى هذا التصور في تركيا قلَّة قليلَة، وفكرة مرجعية أو مصدرية الشريعة الإسلاميَّة، في صياغة القوانين، لا تحظى بشعبيَّة أو حَتَّى بتأييدِ قطاعٍ مهمٍّ. بل إنَّ النسبة الأكبر ترفض هذا الاتجاه: حوالي ثلاثة أرباع الأتراك يرفضون أن تتحول الشريعة إلى قانونٍ رسميٍّ في البلاد، بحسب استطلاع بيو منذ ثلاث سنوات. في المقابل، يستخدم أردوغان وبعض المسؤولين الأتراك في خطاباتهم إشاراتٍ إلى القرآن أو السنة أو التراث الإسلامي. فيُستشهد أحيانًا بحديثٍ نبويٍّ شريفٍ، أو بآيةٍ كريمةٍ، أو بأثرٍ لصحابي جليل، و تُنشر لأردوغان عبر وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات لتلاواتٍ طويلةٍ للقرآن الكريم. وغالبًا ما تحظى الفيديوهات التي تحوي هذه الاستشهادات بنسب مشاهدةٍ كبيرةٍ وتفاعلٍ واسع، ويستخدمها مناصرو ومؤيَّدو أردوغان وتجربته كعلامة، وإن كان بدون تصريحٍ على "إسلاميَّةِ" أردوغان.

وسائل الإعلام والصحافة الغربية، فضوا الإشكال بتوصيف حزب أردوغان بأنه ذو مرجعيَّة إسلاميَّة، وإن كان بعضها في الفترة الأخيرة، وصفته بالإسلامي. أمَّا في السياق الإعلامي العربي، فقد وصِّفَ أردوغان بأنه "إخواني" وليس إسلامي فقط. وبعض المعلقين الغربيين تحدَّثوا عن "خطر" تحوُّل تركيا إلى دولة إسلاميَّة، دونما توضيح لما يعنيه أو ما ينذر بِهِ من خطرٍ على الغرب.

وهنا يطرح السؤال الكبير، الذي يفتقد إلى إجاباتٍ واضحة ومحدَّدَةٍ، وهو: ما معنى "إسلاميَّة" نظام حكمٍ ما؟ فإذا كان هو النظام المستقل أو الذي يحقق الرفاهية الاقتصادية لشعبِهِ أو يضمن الحريَّة، فَمَا الذي سيميَّزه حينها عن غيرِهِ من نظمٍ ليست إسلاميَّةٍ وتصدق عليها تلك الصفات؟ هل دعم نظام ما لإسلاميين يجعل منه نظاما إسلاميًّا؟ سيجيب أي إسلامي غالبًا بالنفي. فلو أنَّ هذا هو المعيار لكانت دولٍ خليجيَّةٍ، مثلًا، أكثر إسلاميّةً من تركيا، لأنَّ الراجح أنَّها دعَمَت حركاتٍ تُعرَّف نفسها بأنَّها إسلاميَّة، أكثر من تركيا.

سؤال صعب آخر، تطرحه تجربة أردوغان على الإسلاميين: فإذا كانت إجابتهم على سؤال "هل تريدون محاكاة تجربة العدالة والتنمية أم لا؟" هي: "نعم"، سيكون من المنطقي حينها التساؤل، وما "الإسلاميّ" في هذه التجربة؟ إذا كان "إسلاميَّته" فيما يظهر في خطاباتِهِ، فمن حكام العرب والمسلمين من يستخدم الرمزيَّة الدينية أحيانًا بصورةٍ تفوق ما يستطيعه أردوغان، بالنظر إلى العوائق الدستورية التي تفرض عليه قيودًا في هذا الصدد.

والدساتير والنظم الأساسية لبعض البلدان العربية، تتضمَّن الإسلام أو الشريعة، بصور مختلفةٍ. وبعض الدول تطابق بين "دستورها" وبين "كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم". وهذا مما لا يمكن تصوره طبعًا في تركيا، ولا يبدو أن كتلةً حرجةً فيها تضغط في اتجاه تنفيذه. ومع ذلك لم يحسب الإسلاميون أنظمة هذه الدول: أنظمة إسلامية، ولا تقدم تلك الدول نفسها باعتبارها إسلامية. أما إذا كان "الإسلامي" في تجربة أردوغان، هو ما ذكرناه من الازدهار والحرية وعدم الارتهان إلى الخارج؟ هل يكون من الأجْدَى حينها أن تُحَاكى سنغافورة وكوريا الجنوبية أو فنلندا أو اليابان، لأنها تفوق تركيا في هذه الجوانب؟

إن السياسة الخارجية التركية، تحددها استراتيجية تُعلي من شأنها كدولة/أمة، وعند تضارب مصلحتها مع مصلحة حلفائها، الإسلاميين أو غيرهم، ستقدم مصلحتها.

ولكن قد يرى البعض أن العنصر الذي يميَّز تجربة أردوغان "إسلاميًّا" هي النزعة التضامنية مع المسلمين في بلدانٍ عدَّةٍ، وبصورةٍ خاصَّةٍ الإسلاميين. فمن سوريا إلى مصر إلى بنغلاديش، قدم أردوغان نفسه كمدافع عن المسلمين ضد انتهاكات الأنظمة القمعية وضد إجحاف الغرب وسياساته. ولكن رغم نشاط أردوغان في هذا المضمار بلا شكٍّ، إلا أنَّ هذا كان، بدرجةٍ ما، امتدادًا لاستراتيجيَّةٍ قوميَّةٍ لتركيا سبقته، فحتى قبل وصول حزبِهِ إلى السلطة، دعمت تركيا المسلمين في البلقان وفي آسيا الوسطى، بل هناك من تحدَّث عن صلاتٍ بين دوائرٍ محسوبةٍ على السلطة فيها وبين الإخوان المسلمين منذ الستينيات، خلال أجواء الحرب الباردة، وهواجس المد الشيوعي. ولكن يمكن بالطبع أن يميَّز هنا بين علاقاتٍ طارئَةٍ وبراغماتيَّةٍ وعلاقاتٍ استراتيجيَّة وتاريخيَّة.

رغم ملامح الالتزام الأخلاقي والشعور بالواجب في خطاب أردوغان وسلوكِهِ تجاه "المسلمين السنة" المقموعين في العالم العربي وخارجه، إلا أنَّ هذا لَمْ يُترْجَم إلى سياساتٍ فعَّالَةً تصد آلة القمع عنهم، بالمقارنة مثلًا بسياسات إيران وروسيا والولايات المتحدة في دعمهم لحلفائهم العرب، حيث استخدموا آلاتهم العسكريَّة بقوَّةٍ وحسمٍ أكبر. والبعض يطرح حجَّة "إكراهات الواقع" لتبرير هذا الموقف، ودليلهم الأوضح والأصدق هو المحاولة الانقلابية في 15يوليو الماضي، وهذه حجج مقبولة ولا غبار عليها، بمنطقِ السياسة، ولكن ستولَّد لنا إشكالًا، إذا افترضنا أن نظام أردوغان هو نظام (إسلامي/ أخلاقي/ شبه إسلامي/ أو يتجه إلى ذلك)، فإذا كانت إكراهات الواقع هي ما تحدد سياساتِهِ، سيُعَاد طرح السؤال، ما الذي يميزه حينها عن غيرِهِ؟ فالسياسة، فعلًا، هي إدارة إكراهات الواقع وفن اقتناص الفرص. فما الذي يضيفه إلى الواقع أو قدرتنا على التفسير، القول بإسلامية النظام أو علمانيته؟

الظاهر أن السياسة الخارجيَّة التركية، تحددها استراتيجية تُعلي من شأنِ تركيا كدولةٍ/أمَّةٍ، وعند تضارب مصلحتها كدولةٍ مع مصلحة حلفائها، الإسلاميين أو غيرهم، ستقدَّم مصلحتها. بالطبع صانعو القرار الأتراك، لهم تصوُّراتهم وأفكارهم وقيمهم، لكن الاستراتيجية غالبًا تتطوَّر عبر الوقت متمحورَةً حول مصالح (الأمة/ الدولة ٍ/ الأرض). هل يمكن تصور سيناريو مختلف: دخول تركيا في مواجهة شاملة مع إيران أو الولايات المتحدة أو روسيا، لصالح القوى السنية التي تتعرض لأشكال من التهجير والإبادة؟ هذا السيناريو قد يبدو متناقضا مع منطق الدولة، لاسيما في سياق حساب واقعي للخسائر والمكاسب.

في هذا السياق، ووفق هذا المبادئ، يمكننا أن نفترض استمرار دعم تركيا للقوى الإسلامية أو الديمقراطية أو انقطاعه، فإذا افترضنا أن الإلزامات الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فرضت مصلَحَةً جديدةً تتناقض أو لا تتوازى مع مصالح العرب المتحالفين معها، فإنَّ فكًّا للارتباط ليس مستحيلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.