شعار قسم مدونات

في التعليم(1) نوبل وسياسة الاستقطاب الأمريكية

blogs- نوبل
رفع الستار قبل أيام على جوائز نوبل لعام 2016 في تخصصاتها الستة "الأدب، السلام، الفيزياء، الكيمياء، الطب، والاقتصاد"، والملاحظ هذا العام كما كل الأعوام تربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الجائزة بحصد سبعة من أبنائها للجائزة من أصل إحدى عشر فائزا.
 

وفي الحقيقة فإن حصد مواطني الولايات المتحدة لأغلب الجوائز ليس هو المثير للانتباه، فالأمر أصبح من العادة تقريبا أن يحدث، بل الذي يثير الانتباه حقا هو أن السبعة أمريكيين الذين حالفهم الحظ هذا العام ستة منهم هم من المهاجرين، وسابعهم -بوب ديلان- ابن مهاجرين شدا الرحال نحو أمريكا مطلع القرن الماضي. وهذا ليس حدثا جديدا عند الأمريكيين فهو أمر من السهل جدا استساغته في بلد يقوم على استقطاب المتفوقين والموهوبين منذ عقود.
 

استقطاب المواهب من الخارج، بتشجيع هجرة الكفاءات من مختلف الجنسيات وتوفير كل التحفيزات التي تساعد على استقرارهم في أمريكا استقرارا نهائيا

إن النتائج التي يحصدها الأمريكيون اليوم في جائزة نوبل، وفي الواقع العلمي ككل، لم تكن محض صدفة، بل جاءت نتيجة عمل مخطط جبار تم على مستوى قطاعات التعليم والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي. هذا العمل الذي بدأ مباشرة بعد شعور الأمريكيين بالخطر المستقبلي عليهم نتيجة نجاح الاتحاد السوفيتي سابقا في إطلاق أول قمر صناعي للفضاء Sputnik" سنة 1957″، فكان ذلك نقطة تحول في تطور اهتمام الولايات المتحدة بقطاع التعليم.
 

وقد تجسد هذا الاهتمام في قيام الرابطة القومية للتربية "The National Educational Association" سنة 1958 بتنظيم مؤتمر علمي لتطوير النظام التربوي والبحث عن السبل الكفيلة بتطوير مستوى المتمدرسين، وآليات اكتشاف الموهوبين والمتفوقين منهم، ودعم وتطوير تعليمهم في مختلف المراحل التعليمية للاستفادة القصوى منهم.
 

وفي نفس العام أقر مجلس الشيوخ الأمريكي قانون "التعليم للدفاع القومي "The National Defense Education Act"، وقد تحقق للأمريكان بغيتهم بعد ذلك بسنوات بغزو الفضاء وإنزال أول رائد فضاء على سطح القمر عام 1969 وريادة الاقتصاد المبني على نظام تعليمي غاية في الإبداع والابتكار.
 

لقد ركزت الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير نظامها التعليمي على الموهوبين والمتفوقين باعتبارهم أهم الثمار التي يجب الاعتناء بها وقطفها في أبهى حللها، وفي إطار سعيها لذلك أقرت إستراتيجية ترمي إلى كشف المواهب وصقلها، وقامت هذه الاستراتيجة على ركيزتين أساسيتين: أولهما كشف وتنمية المواهب الداخلية من خلال إيجاد المؤسسات والبرامج التعليمية القوية المسايرة للواقع العلمي والمستشرفة لمستقبله. وثانيهما استقطاب المواهب من الخارج، بتشجيع هجرة الكفاءات من مختلف الجنسيات وتوفير كل التحفيزات التي تساعد على استقرارهم في أمريكا استقرارا نهائيا.
 

هذا التزاوج جعل أمريكا النموذج الأبرز لبروز الكفاءات العلمية، فرمز النجاح توماس ألفا إديسون مطور المصباح الكهربائي المتوهج وجهاز الفونوغراف وآلة التصوير السينمائي كان أمريكيا، والألماني السويسري ألبرت أينشتاين استقطبته أمريكا ليصبح احد أهم العلماء في الفيزياء، و روبرت أوبنهايمر الذي لقب بـ "والد القنبلة النووية" والمدير العلمي على مشروع مانهاتن لتصنيع السلاح النووي الأول في الحرب العالمية الثانية كان ألمانيا.
 

ما يميز تطوير النظام التعليمي في مختلف مراحله في أمريكا أيضا أنه لا يقتصر على الدولة، فالشركات الخاصة تدفع سنويا ملايين الدولارات لكشف وتشجيع وتنمية المواهب الأمريكية لضمها في مشاريعها الاقتصادية مستقبلا

ها هي الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، وبعد عقود من الاجتهاد المخطط الذكي، تقطف الثمار باستمرار، فمن مدرجات الجامعة إلى مراكز البحث مرورا بوادي السيليكون وأقطاب الصناعة ورواد الابتكار التكنولوجي، تعلم العالم أن الريادة الاقتصادية والسياسية لا تنطلق إلا من ريادة في النظام التعليمي أولا. وليس ذلك ممكن إلا من خلال الإبداع على كل المستويات، سواءا تعلق الأمر باستحداث القوانين الرامية إلى ذلك أو التمويل المالي والعيني المعين عليه، وقبل ذلك كله لم يكن الأمر ممكنا لولا ترك الفرصة للأمريكي و"المتأمرك" من فرض نفسه من دون عقد.
 

وتتأكد لنا هنا بعض "المسلمات" أبرزها أهمية النظام التعليمي الإبداعي الذي يصنع المستقبل ولا ينتظره، النظام التعليمي الذي نرى عائده الاقتصادي رأي العين متجسدا في صناعات رائدة وابتكارات خالدة، نظام تعليمي مرن لا ينتبه إلى الجنسيات بقدر ما ينظر إلى مستويات التفوق ومجالات الموهبة. والمتأكد منه أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك جيدا أننا في عالم تمثل فيه المواهب والأفكار الإبداعية ثروة لا تنضب لأنها في عقول الناس، من أجل ذلك تنفق كل عام عشرات الملايين من الدولارات لتبقى في طليعة العالم دائما.
 

إن ما يميز تطوير النظام التعليمي في مختلف مراحله في أمريكا أيضا أنه لا يقتصر على الدولة فقط بل يتعداه إلى الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة، بل إن هذه الأخيرة تدفع سنويا ملايين الدولارات لكشف وتشجيع وتنمية المواهب الأمريكية لضمها في مشاريعها الاقتصادية مستقبلا، ولعل أبرز أمثلة هذا هي شركات وادي السيليكون. وسنحاول في موضوعات لاحقة من هذه السلسلة التعرض لمساهمة الخواص في كل هذه الإنجاز ات الأمريكية الباهرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.