شعار قسم مدونات

الاعتذار: سجودُ سهوِ العلاقات

blogs - love
تستيقظ صباحاً من سُباتك المؤقّت، تنهض فتغسل وجْهك الشاحِب من أثرِ تقلّبات حياتك المُنتكسة، تناديكَ أمّك الحنون بصوتها المبحُوح لتشاركها لحظات الصّباح المُمطرة وتشرب فُنجاناً من القهوة معها، فتخرج من البيت وقد قلتَ لها لا أريد، تذهب لتدخل مُعترك الحياة، رُوحك غلبَ عليها صدأ المشاحنات المُستمرّة، علاقاتك بدَت مُستقرة في بادِئ الأمر، لكنّها أصبحت تتأرجح على ناصية الانهيار، جدول حياتك مُتخبّط الأركان، ترجعُ منهكاً إلى البيت، فتغرق في سُباتك الاعتيادي على صوت حفيفِ أوراقِ الزيتون الحزين وألم رائحة الياسمين. وكأنّ البيت خالٍ من الأرواح، وهكذا دواليك يا مخلوقَ زمانك.

اغتنمْ ما تبقى من عدّاد عمرك، فالاعتذار رحمة لك، فيه لذة لمن يعتبر، فهو يصوّب مسار حياتك إلى الأفضل المشرِق المستمر.

تُخلق روحك بمشيئة الخالق سُبحانه، وتدخل بها إلى هذه الحياة الصّاخبة، حياتك فيها هي علاقاتك، فإذا انعدمت انعدم وُجودك، وعلاقاتك فيها هي صلاتك، تختلف ماهيّة العلاقة التي تربطُك بالطرف الآخر كاختلاف أي شيءٍ عن أيّ شيء، ولا توجد علاقة راكدة خالية من شوائبٍ قد تعكّر صفوها أو تؤدّي إلى تبدّلها، فلولا الشوائب لما بانتِ الحقيقة، ولما كنتَ قد استشعرت معنى وُجودك، وثبات العلاقة منوطٌ إلى طرفيها معاً ووقود دوامها هو الاعتذار.. علاقتك بخالقك علاقة مقدّسة، كاملة مُتكاملة من طرَفه سبحانه، وديمُومَة العلاقة ومدى رسُوخها متوقّفة على المخلوق نفسه "نحن".. نسجدُ سجودَ سهوٍ ونلجأ للتوبة، نلجأ لرَحمته وعفوِه عند تقصِيرنا في واجباتِ صلاتنا تجاهه.

أمّا بينك وبين أمثالك من المخلوقات، فثقافة الاعتذار يجب أن تكون مُتبادلة لا تقتصر على طرف دُون طرَف، فكلا الطرفين مخلوق، وهنا الكارثة، هنا الحلقة المُلتوية، هنا تتخبّط العلاقات وتنكسر، بين زوجٍ وزوجته، أخٍ وأخت، بين وبين، تحت مُسمّى عنجَهيّة الكبرياء المزيّف. ثم إذا وقعتِ الواقعة لأحدٍ منهما، دخل الآخر في دائرة النّدم واسترجعَ ذكرياته الجميلة معه، ويا ليتني فعلتُ من قبلِ هذا. نحن هكذا دائما، نعتذر عند السقوط، نحبّ أن نحشر أنفسنا في آخر المضيق البعيد.

مخلوقات بعيدة عن المثالية والكمال، هكذا خُلقنا وعلى الخطأ جُبلنا، لكن هذا لا يعني أن لا نسعى ونجْبر كسرَ علاقتنا بالاعتذارِ الصّادق، "كلّ ابن آدم خطّاء وخيرُ الخطائين التوابُون" عندما تُخطئ اعتذر فوراً ولا تتردّد؛ لأن التردد هو الآفة التي تُلقي بك إلى الهاوية، هو آفة السّقوط البطيء، اعتذر فحسب. خالط العلاقات التي تهوَى الاعتذار في سبيل تحقيق وُجودِك في الحياة وقاتل من أجلها، فلستَ بحاجة إلى علاقات ترى في الاعتذار نقصاً لكبريائك السّخي. فهذا انتكاسُ الفطرة السّقيم الذي يحرِفُ القلبَ عن المفاهيم السّليمة، اطرد هذه العلاقات الغبيّة من حياتك، واعتذر لنفسك لأنك حرَمتها هذه النعمة، واغتنمْ ما تبقّى من عدّاد عُمرك، فالاعتذار رحمة لك، فيه لذة لمن يعتبر! فهو يُصوّب مسار حياتك إلى الأفضل المشرِق المسْتمر.

وإن كنت صعب المِرَاس، اجبر نفسك على ذلك وعاقبها، انهض من فراشك الكئيب وخاطبها، تعالِي يا نفسُ فقد مَلَـلت تأنيبَ الضمير، تعالي فلنجلس على غُصن شجرة الزيتون الوحيد ولنتصارح هنا، فِيمَن قصّرت في حقّه أو أخطأت واعتذر له قبل فوات الأوان، قبل الندم الدائم، تفقّد قلبك وأرِحهُ من كَمدِ أثقالِ الهجران والقطيعة.. قم يا مخلوق فقد أثقلَتْ أوزَارك عُوديَ العتيق، قم واسقِ الياسمين في الزاوية المهجُورة، قم وأطعم العصفورَ الجائع، قم وقبّل يدَ من كانت لك أوّل وأطول علاقة وستظلْ، اعتذر إليها، اجعل قلبها يضحك، تبتسم لك الحياة، قم وتوَدّد لأبيك وأحسِن له، ترى القلبَ يُزهر سعادةً وراحة.

قم واعتذر لخالق الاعتذار واشكرهُ على نعمته ترى الكونَ جميلاً مثلك.. اعتذر يا صديقي، فالعلاقة الخالية من الاعتذار مُنافقة، وتبدُو لئيمة وتبوءُ إلى الفشل، اعتذر لِتحيَا حياة جميلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.