شعار قسم مدونات

الأحزاب السودانية: شبابها وبياناتها

blogs - sudan
فلنركض من تلك النقطة.. أكاد أجزم أن المعارضة للأنظمة، والتي انتظمت في شكل أحزاب في وجه الأنظمة الديكتاتورية والشمولية، قد نجحت الأنظمة في الحيلولة دون الوصول للجماهير. فالخطاب والمتلقي هم زمرة بسيطة من أعضائها أو المهتمين أو الساخطين على وجه العموم، و أكاد أجزم أيضاً أن الصيغة التي تكتب بها البيانات، قد تم حفظها عن ظهر قلب لتلك الفئة التي يصلها البيان المقصود به الجمع الكمي، لكنه استهدف الجمع النوعي الذي يحمل قدرا من الوعي بتلك الكلمات من شاكلة: "جماهير شعبنا الأبية، لقد ظل النظام..، ممارساته..، ديدن حزب.."

لا أخاف على شيء سوى السقوط الأبدي في صفحات النسيان للأحزاب، بسبب الاتساع المريع بين القيادات وشباب الأحزاب

تلك الكلمات القديمة المتجددة مع كل بيان قد شقت مسامعنا لتدخل من الأذن اليسرى إلى اليمنى والعكس، هذه الكلمات التي لم تعد أكثر من أشياء تثير تقززنا من الأحزاب، وأصبحنا مع كل بيان نضع النظام ومعارضته في نفس الكف الذي مال ليرمي البلاد لما هي عليه الآن. لقد سئمت الجماهير من كلمة "لابد" التي تأتي في معظم البيانات "إن كلفة بقاء النظام باهظة،(لابد) من رحيله". إننا كمتلقين ننظر لكم بعين الشفقة، لمجاهداتكم في سبيل إرضاء أنفسكم بأنكم ما زلتم تقولون ﻷ، ما زلتم تكافحون بطش النظام، ولكن العلة منهم -أي نحن الجماهير-، العلة يا سيدي المحترم من خطابك المتعفن منذ 1956 لتخاطب عقولا أدرى بمشكلتها، هي تعرف ألا خلاص إلا برحيل النظام، وتعرف كافة وسائل الانتفاضة عليه، لكن تنتظر من يأخذ بيدها ويجعلها تؤمن ب "البديل" ذلك السؤال الذي نجح النظام في زرعه في أمهات عقولهم الباطنة، فأصبح المبتدر عند بداية كل نقاش بين متحزب وأحد الجماهير..

قد تكون الأحزاب ذات بنية صلبة وأيدلوجية متماسكة، وتفكير قيادات مرن، وأعضاء يأخذون القدر الكافي من الحرية لاتخاذ ومراجعة القرارات المختلفة، من تحالفات وتقاطعات أفكار مع الأحزاب المعارضة، وحتى النظام الحاكم في سبيل تقديم المصلحة العامة "رفعة الوطن". لكن ما نراه و ما رأوه أجيال سبقتنا، أن هذه أو تلك ليست قادرة على إحداث التغيير في مجالها الضيق "الحزب"، فكيف بربكم نستأمنهم لقيادة بلد بأكمله؟ إن هذا النقد الحاد والجاد في آن واحد، ناتج من الخوف الكبير الذي انتابني بعد السرعة الرهيبة في سقوط الاقتصاد السوداني، خاصة بعد انفصال الجنوب ووصول الدولار إلى 16 جنيه في السوق الموازي. أي أننا وصلنا منطقة اللا عودة، والتي لا يمكن إصلاح الفساد الكبير الذي خلفته سياسات عابثة بالبلاد والعباد التي انتهجها المؤتمر الوطني، فالسرعة في حسم قرار رحيله قد تكون فعلا خاسرة، حيث أننا وصلنا نقطة اللا رجوع منها للأفضل، لكن في كل الأحوال رحيله أفضل من بقائه.

إن هذا النداء لأحزاب المعارضة، أملا في شيء يبدو صعبا بل مستحيلا عليها، ألا و هو التنظيم للعمل الجماهيري وإحداث نوع من التوعية الحتمية برحيل النظام، وعرض الوسائل لإسقاطه والنتائج المترتبة على بقائه، والخطوات التي سيتم عملها بعد سقوطه. أنا كنت من عامة الشعب الذي لا يؤمن بأهمية الأحزاب ودورها في التنظيم، إلى أن وقع في يدي إحدى المقالات التي تتحدث عن المسيرة الضخمة التي قادها مارتن لوثر والتي تعتبر مرجعية مهمة في المسيرات السلمية، ودورها في التغيير وأنموذجاً يصلح لتطبيقه حتى مع أشد الحكومات الشمولية.

النظام الذي ظل يمارس القتل والتشريد والكذب طوال سبعة وعشرين عاما، لن يقدم أي جديد لي ولا لأفراد شعبي المغلوب على أمره ما بين نظام باطش ومعارضة تلعب بالبيضة والحجر.

إن الخيارات تضيق في كل مرة يتحدث فيها أحدنا عن رحيل النظام، وفشل المعارضة الدائم في إحداث الحراك بين صفوف الجماهير، فالغاية واحدة، إذا "لابد" نابعة من الجماهير لتنزل الأحزاب من أبراجها العاتية لصفوف الجماهير، فالهوة التي بينها وبين الجماهير تتسع. إني لا أخاف على شيء سوى السقوط الأبدي في صفحات النسيان للأحزاب، بسبب الاتساع المريع بين القيادات وشباب الأحزاب الذين أضحوا بين سندان سياسات الحزب ومطرقة المطالب اليومية للجماهير الذين أصبحوا يعوا جيدا المسلك للخلاص.

لكن القيادات تمسك بموازنات لتحالفات وتكتيكات سياسية لا تعني شباب الحزب بقدر ما يعنيهم إسكات تلك الأصوات الساخرة من عجزهم، أو التأثيرات المباشرة من اعتقال الرفقاء وزملاء النضال من شتى الأحزاب أو غير المتحزبين، لعل الحوار الوطني الأخير الذي كشف عن أنانية كاملة للنظام بالاستفراد بالسلطة وجمع شتات أحزاب ضعيفة، ليست لها أي ثقل كشف بوضوح نوايا النظام في التمدد أكثر وأكثر، وفي المقابل لا نجد أي تحرك من الأحزاب المعارضة التي نحسب أنها ذات ثقل مثل الشيوعي والأمة القومي والاتحاد الديموقراطي، سوى رفض المشاركة، وفي نفس الوقت تعيد على مسامعنا نغمة إسقاط النظام.

إن الأحزاب السياسية بمختلف توجهاتها تكشف لنا عن عقلية السياسي السوداني الذي يرفض تجديد الدماء والتنازل عن مقعده لصالح الشباب، مما أدى لخروج المئات منها، وهو ما حدث في آخر مواجهة مع النظام من خلال الإضراب الذي تم شهر أكتوبر الجاري، وما نجم عنه من استقالات جماعية لفرعية الأطباء في الحزب الشيوعي، وكشف البيان الصادر عن تلك الممارسات التي ينتهجها الحزب، تماما كما يفعل المؤتمر الوطني مع مؤسسات الدولة.

أنا كأحد أفراد الشعب السوداني، أركل الكرة بكل قوتي في ملعب الأحزاب؛ فالنظام الذي ظل يمارس القتل والتشريد والكذب طوال سبعة وعشرين عاما، لن يقدم أي جديد لي ولا لأفراد شعبي المغلوب على أمره ما بين نظام باطش ومعارضة تلعب بالبيضة والحجر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.