شعار قسم مدونات

وأشرق في ظلام اليأس "مصباح"

blogs - syria

ذات ليلةِ همٍّ وإحباطٍ وألم سوّلت لي نفسي أمراً، فهممتُ بسوء: أنْ أسكبَ الحبر وأقصمَ القلم! فلا بريق في الأفق، ولا الشروق باد، ولا غروبنا يُجمّله شفَقْ! ولا صبح لنا يتنفّس من ظلمة الغسق! فما عساه يكتب قلمٌ مهموم أو حتى ريشة محنيّة ترسم؟

أهوال المشهد وفظائعه أصعب من أنْ تُكتَب أوتُرْسَم! فالدماء والأشلاء والجثث تسحب من تحت الرّكام وحواضرنا خراب، وعواصمنا دمار والمشرّدون في الآفاق، والغرقى في الأعماق.

وكرام أمّتنا أذلّة متسوّلون في شوارع الغرب، واللاجئون على الحدود بالملايين بلا مأوى، وأحرارنا يملؤون أقبية سجوننا أكثر من الأسرى في معتقلات عدوّنا.

وحكّامنا طغاةٌ يتجبّرون فينا وفي أعناقنا ويسرقون أرزاقنا ويمتطون ظهورنا، ونخبنا "ملأٌ" للطغاة، فاسدون متعفّنون يسترزقون بتجهيلنا وإفسادنا.

ونخبنا "ملأٌ" للطغاة، فاسدون متعفّنون يسترزقون بتجهيلنا وإفسادنا

وقادتنا ديناصوراتٌ أكل الدّهر عليهم وشَرِب، يعيشون في غيابت جبّ الماضي السحيق، "كُنتيّون" لا يعرفون فعل المضارع ويحاربون المستقبل!

ومتديّنونا كهنةٌ لا يرون غيرهم سدنة للمعابد، بل بعضهم يحارب الدّين لفَرْط جهله! يعيشون خارج الكون، يفصلون الدّين قسراً عن الحياة والنّاس!

وشبابنا الذين نأمل منهم صناعة غدنا استعبدتهم الشاشات، وأسَرَتهم الأزرار والكبسات، وغادروا العطاء وانحشروا في شرنقة الذات!

وشعوبنا أضحت بعد كل هذا الفيضان من القهر والحرمان والإذلال والجهل والتخلّف أسرى للقمة العيش! وهيهات للحريّة أن يصنعها جياع!

القاهرة يحكمها عسكر المعكرونة، وبغداد يحكمها البويهيّون الجدد بحماية العمّ سام، والموصل يعيث فيها حمقى الخوارج فساداً، ودمشق يختطفها غرٌّ مغرور، وحلب يطوّقها مرتزقة زحفوا من وراء سبعة أبحر، وصنعاء خطفها صعاليك الجبال، وو.. وفي غمرة التيه هذا نسينا القدس في أحضان الصهاينة، بل لم نعد ندري من هم الصهاينة؟!

أبعد كلّ هذا ال.. هناك نَفَسٌ في قلمٍ يكتب بحبر أو همّةٌ في ريشة ترسم بلوْن؟ كلّ أحبارنا أصبحت دماً وكلّ ألواننا غدت أحمراً! واحترقت كلّ صحفنا واسودّت كل لوحاتنا! نمتُ على مواجعي كما الملايين تنام!

تقلّبتُ على كآبة هذه الليلة بعضُ دهرٍ كأنّه الأبَد، وتعالجت في النّفس هموم وفراها الكَبَد، وتصارعت في حنايا الرّوح آمال تتململ وآلام تتبختر، وحفرت الهموم في الأعماق أخايد مظلمة لا يكاد ينيرها بصيص ضوء ولا وميض "مصباح"!

كلّ أحبارنا أصبحت دماً وكلّ ألواننا غدت أحمراً! واحترقت كلّ صحفنا واسودّت كل لوحاتنا!

بيد أنّه ما مِن ليلٍ مهما طال إلاّ وقد كُتبَت له نهاية، والفجر مهما غاب قادمٌ لا محالة!  ما كنتُ -لفرط يأسي- أدرك بداهة هذه الحقيقة، حتى أيقظتني من متاهة إحباطي لسعةٌ من وهج "نور"، يكاد سناه يذهب بالأبصار لشدته!

تقصّيت أثره، واقتفيت شعاعه، حتى وصلت مصدره: جفنةٌ من زيتٍ بالكاد تملأ حَفنة كفّين! يحيط بها جمعٌ غفير؛ يتدفؤون ببعض نار، ويتباركون بشهاب نور.

تملّكني العَجَب، فتسمّرت كما لو أنّ الرّوح سُلبِت منّي! إلى أن هزّتني صبيّة مليحة الوجه صبيحة المحيّا! ما كدتُّ لبريق سناها أميّز وجهها من النور! أيا عمّاه! كأنّ بِك عَجبا؟! هذه بقيةٌ من دم "مصباح"! قلتُ لها: بنيّتي وقد أيقظتني من كآبتي، أسعفيني بقلم وفيض حبر!

رمَقتني لائمةً: وماذا يفعل الحبر وقد سال الدم؟ وماذا يكتب القلم وقد لعلع الرصاص؟ أيا عماه! هذا رصاصنا يصنع عزّتنا، وهذه دمانا ترسم لوحة حريّتنا! تمتمتُ في نفسي: يكفيك أنّ ليلَ كآبتك انجلى، وأشرق في ظلام يأسك مصباح!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.