شعار قسم مدونات

تلميذٌ مع وقف التنفيذ!

bolgs-student
تقول أستاذة الفلسفة مُستشهدةً بقولة لأحد الفلاسفة: "لا وجود للفلسفة، إن كل ما يوجد هو فعل التفلسف"، تنطق بالعبارة كتشجيع لنا حتّى نُطلقَ العنان لفلسفاتنا التي احتفظنا بها لأنفسنا، لأننا لم نجد من الثقة ما يكفي لنُبديها أمام الآخرين، يقينًا منّا أننا لن نكون يومًا بحجم فولتير ولا ديكارت ولا سبينوزا ولا ياسبرز ولا غيرهم من اللذين قالوا "ها أنا ذا" بفكرِةٍ صغيرةٍ جدًا.

بيد أنّها تُقنعنا بأن نتكلّم ونعبّر عمّا يخطر ببالنا، فلا أحد من الفلاسفة -على حدّ تعبيرها- أفضل من غيره، إلى أن نلفظ الفكرةَ، الفكرة التي غالبًا ما تُباغتُ توقعاتها لأنّها لم تتنبّأ بها مُسبقًا، لذلكَ تدحضها على الفور دون تحليلٍ ولا اكتراث حتّى، لأنّها ليست مُبرمجة في النظام المُقرر تدريسُه، ولذلك سُرعان ما تنسى أو علّها تتناسى تشجيعاتها الأخيرة، فتُخبرنا "لا مجال للرؤى الذاتيّة في الفلسفة، كل ما عليكم فعلُه هو تحليل رؤى الفلاسفة المُضمنة أسماؤهم بالكتاب المدرسي".

 

نعود إلى قوقعة الصّمتِ مُجددًا، فتضطر إلى العودة إلى نظام التلقين الذاتي دون أن نُساعدها في استرجاع البضاعة التي أودعتنا إيّاها في المرّة الأخيرة لنردّها إليها في الامتحان القادم.
 

يُعاملنا الأستاذ "نحن تلامذة البكالوريا" وكأننا من ذوي الأقسام الابتدائية التي لابدّ أن تُسلّط عليها الصرامة الكافية لتعتاد الانضباط،كما لقنونا ماضيًا.

يفتتح أستاذ التفكير الإسلامي إحدى الحصص بِـ: "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم" كلومٍ لأحد زملائنا لأنّه ألقى على صديقه مزحةً ثقيلةً ظاهريًا، مع أنّ الصديق في حقيقة الأمر لم يتضايق ولم تبدُ معالم الاستياء على وجهه، لأنّ الصديقين اعتادا مُزاح بعضيهما، غير أنّ الأستاذ، في عزّ انهماكِه في الشرح، يُحاول أن يكون خفيف الظلّ معنا، فيُحدثنا عن عذاب الآخرة قائلاً: "سيكون منظركنَّ عجيبًا في جهنم أيتُها الفتيات، لاسيّما البدينات منكنّ، سيكنّ كالدجاجاتِ المشوية.. يا لَه من منظر شهي بحق!".
 

ثم يعود بعد ذلك ليضربَ لنا مثلاً تدعيمًا لحجةٍ ما في الدرس، فيتهكّم على أحد الفنانين المشهورين، لا لعيبٍ في خُلُقه، ولا لتصرّف بذيء بدر منهُ، وإنّما لأنّ الصورة التي خُلقَ عليها لم ترُق الأستاذ، فينتقدُ أسنانه المُبعثرة، وشعرَه المُجعّد، وصوته الخشن؛ يُتم الأستاذ الشرح، ليخصص لنا بضعة دقائق يوعينا فيها نحنُ "السّافرات" بخصوص وجوب ارتداء الحجاب على من هن في مثل سننا، مؤكدًا على أن لباسنا-وإن كان مُحتشمًا-فإنّه يظل عاريًا وكاشفًا لما لا يصحّ كشفه، تُخفض أغلبية الزميلات رؤوسها، وما برئن يتهربن من الارتباك الذي أوقعهن فيه حتّى تأخذه ذاكرتُه إلى إحدى الزميلات من فصلٍ آخر، زميلة يعرفها الجميع بجُرأتِها لباسًا وسلوكًا، فيصف لنا مقدار إعجابه بها لكونها "مؤدبة" و"خلوقة"، وكأنّنا غافلون عن تصرّفاتها وسلوكياتها، نحن "الشيطانات"، والسافرات، والمُتبرجات.
 

يضربُ أستاذ اللغة العربية الطاولة كلّما دخل القاعة وملامح الضجر بادية على وجهه من قبل أن تبتدئ الحصة حتّى.. يمل منّا الأستاذُ عادةً قبل بداية الحصّة، وكأنّه في عملٍ تطوّعي رتيب! يستهلّ الحصة بالسؤال التقليدي: "هلّا شرع أحدكم في قراء القصيدة؟"، فلا يستجيب له أيٌ منّا خشية أن يُصرخ في وجهه على ذنبٍ لم يرتكبه.

 يُعاملنا الأستاذ "نحن تلامذة البكالوريا" وكأننا من ذوي الأقسام الابتدائية التي لابدّ أن تُسلّط عليها الصرامة الكافية لتعتاد الانضباط-كما لقنونا ماضيًا-ولذلك عادةً ما تمضي ساعات اللغة العربية الأثقل على الإطلاق، لكونها بمثابة الترهيب العميق لنا جميعًا دون استثناء من أشدّنا تميزًا إلى أكثرنا إهمالاً.

 

يمل الأستاذ الحديث بمُفرده، فيُخفض من صوتِه، مُرغّبًا إيّانا في المُشاركة، فيقول مُداعبًا: "أودُ سماع أعمالكم.. إنّي متشوق بحق للتعرّف عليكم، أيها المُجتهدون، لقد بلغتني إطراءات مُدرسيكم السابقين، وهذا ما زادني تشوّقًا لِلَمس إبداعاتكم، هيّا، فليتكرّم أحدُكم ويُبادِر!".. يتطوّع أحدنا للقراءة، فيستوقفه الأستاذ من قبل أن يغوصَ في عُمق الموضوع، لأنّ الجملة لم ترُقه جماليا، يكمل التلميذ منّا قراءة عمله، يفرغ من القراءة، ثم يعلّق الأستاذ بـِ: "لا بأس.. عمل جيّد، ولكنّك لم تُلمّ بالمطلوب تمامًا".

نعودُ إلى صمتِنا مُجددًا يقينًا منّا أنّا لن نُلم بالمطلوب مهما اجتهدنا، يغضب الأستاذُ من صمتِنا مُجددًا، يضرب بكفّه الطّاولة، ثم يخرج ليُدخن سيجارة أمام الفصل، سيجارة قد تمده بالطاقة الكافية لتحمّل غبائِنا، نحنُ "الحمير التي تحمل أسفارًا".
 
 تدخل أستاذة الفرنسية القاعة بعد تأخر دام أكثر من خمسة عشر دقيقةً، تعقبها زميلة لنا أتت للتو ركضًا من أحد دكاكين بيع "كسكروتات الملاوي" المُقابلة للمعهد، فتوبّخها الأستاذة على تأخرها ناعته إيّاها "بالمهملة".. فعلاً، إنها مُهملة لأنّها تأخّرت لدقائق معدودة في سبيل ابتياع لُقمةً تُخمد بها جوعها لتتحمل ثقل الساعات القادمة، والتوبيخيات القادمة!، تعتذرُ التلميذة معبّرةً عن تأسُفها الشديد، لأنّها حاولت قدر المُستطاع أن تصل مُبكّرًا ولكن العاملة بالدكّان بجّلت عليها أخرياتٍ عرفنَ كيف ينلن ضالتهنّ في أسرع وقتٍ ممكنٍ، على خلافها هي.
 

تترك "السندويتش" في ركن القاعة دون أن تتناوله، مستجديه رضا الأستاذة حتى تسمح لها بالدّخول، الأستاذة التي أوصتنا بأن ننتظرها دومًا قبل كل حصّة حتى وإن تأخرت لثلاثين دقيقة، لأن معها عذرها دوما، هذا ما قالته وعلينا استيعابُه جيدًا.
 

تشرع في الشرح، ثم تلقي بعض الأسئلة، تكون الأجوبة غالبًا في متناول الجميع، ولكننا كعادتنا نصمُت خشية أن نُقذف بتوبيخ من حيث لا ندري، فترغّبُنا في رفع الأصابع بأسلوبٍ لطيف مؤكدةً على أنّ الإجابات الخاطئة لا تُغضبها أبدًا لأنّها السبيل الأمثل لبناء الدّرس، وأن أعظم ما يُثير سخطها هو "صمتُ الموتى" على حد تعبيرها..يخرج أحدنا من صمته مُجيبًا بنبرة صوت مُرتعشة "C’est un texte argumentatif"، فتصرخ ملء صوتها "زِنوا إجاباتِكم قبل أن تنطقوا باللهِ عليكم!".. نعود إلى صمتنا، فتُملي علينا الدّرس في ربع الساعة المُتبقية من الحصة التي ضاع الجزء الأكبر منها في الصراخ والترهيب والتوبيخ.
 

ندخل حصّة الانجليزيّة بقلب مُطمئنٍ إلى حدٍ ما إيمانًا منّا بأننا قد اجتزنا الجزء الأصعب من اليوم الدراسي الشاق، وبأننا نِلنا النصيب الكافي من التوبيخ لذاك اليوم، تشرع الأستاذة التي لا تُضيع لحظةً واحدة من الحصة هدرًا في الشرح، ثم يستوقفها تصرفٌ صبياني من أحد الزملاء، فتوقف الدرس لتُلقيَ مُحاضرةً على مسامعنا جميعًا "عليكم أن تعوا بأن هذا العام -عام الباكالوريا- ليس كسابق الأعوام، وأنه يتطلب منكم مقدارًا كبيرًا من الانضباط والاجتهاد والكدّ والعمل حتى تجتازوه بنجاحٍ".
 

المعهد يختلف كثيرًا عن السجن، ذلك أنّ لنا الحق في العودة إلى منازلنا يوميًا مهما طال التوبيخ.. منازلنا التي نجد فيها أحدًا نشكو لهُ ما خلّفه تّجريح الأساتذة،

نحن على يقين بذلكَ فعلاً، ولذلك عادةً ما يُخرسنا تعب يقيننا بأن علينا أن نُصارعَ طويلاً، وأن نصبرَ ونتحمل كل هذه الضغوطات في سبيل اجتيازه، وليس فقط على سبيل "التمحريث"-أي الدراسة بنسق مكثف- بل أيضًا على سبيل السعي إلى الحفاظ على معنوياتنا، حتى نحفظ ثقتنا بأنّنا أهلٌ للدخول إلى الجامعة بفضل كل الأجوبة التي احتفظنا بها في صمتِنا ولم نتفوّه بها.
 

يرن الجرس مُعلنًا نهاية يومٍ طويل من التوبيخات التي لا نهاية لها.. نلملم أغراضنا في تعبٍ.. نخرج من القاعة بوجوه بائسة.. ثم ننزل إلى طابق المعهد الأرضي، فيصرخُ القيّم في وجوهنا "أيّا خِف روحك إنت واياه.. أيّا برّا روّح فيسع تحرّك!!" يتبادر إلى ذهني لوهلة "ماذا لو كُنا في سجن لمن هم دون السن القانونيّة، هل كانت المُعاملة ستختلف كثيرًا عن هُنا؟".

أطردُ الفكرة من رأسي.. أخرج من المعهد المُحاط بأكداس من فضلات مُتساكني الحي، المعهد المُحاط بكميّات هائلة من الطين الذي خلّفته أمطار البارحة، الطين الذي لابدّ أن يتركَ لكَ أثرًا على ملابِسِك وحذائكَ مع كلّ مرور متهوّرٍ لسيارةٍ طائشةٍ لا تعترف بقانون المرور الذي ينصّ على أنّ "الأولوية للمترجّل"، بينما تعترف بأحقية "المُسترجل" الذي يعرف تمامًا كيف يأخذُ حقّه من الجميع في المرور.. أنتظر كل السيارات حتى تأخذ مسارَها بعيدًا فأجد سبيلاً للمرور-دون أن يُعطيني أحد الأحقية له- فالطريق قد صارت خاوية أخيرًا.

أحمدُ الله طويلاً لأن المعهد يختلف كثيرًا عن السجن، ذلك أنّ لنا الحق في العودة إلى منازلنا يوميًا مهما طال التوبيخ.. منازلنا التي نجد فيها أحدًا نشكو لهُ ما خلّفه تّجريح الأساتذة، وطين الأمطار، وشتائم سائقي السيارات المتهورة فينا، حتى نقوَى على تحمّل "يوم آخر من العذاب".. كلّه في سبيل اجتياز "عام الباكالوريا" بنجاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.