شعار قسم مدونات

بين أب وابنه.. حديث عن أوروبا والوطن!

blogs - father
ذات يوم وفي حوار مع صديق يعيش في فرنسا برفقة عائلته الصغيرة، جرنا الحديث إلى موضوع التربية والقيم والتأقلم هناك بكل ما تتطلبه البيئة من تنازل عن الموروث، وحدثني كيف أنه في نقاش حاد مع والدته كلما عاد في إجازته السنوية إلى بلدته، فالأم متحفظة جداً من التأثيرات السلبية التي تمس أحفادها في قيمهم وثقافتهم وتدينهم، وهي لا تتردد في كل مرة وتلحّ على ابنها أن يعدل عن قرار الهجرة ويختار تائباً الاستقرار مثل إخوته وعائلاتهم في الوطن.

معاناة صديقي لم تنته عند ذلك الحد، بل هناك إشكال أعمق يواجهه كل صيف هو مقاومة ورفض أبنائه السفر معه إلى مدينتهم، فهم يفضّلون البقاء في فرنسا بكل ما تحمل من جاذبية في يومياتها، حتى اضطر للاستعانة بصديق له ليقنعهم، بعدما تفشل أمهم في التبرير والإقناع، ومن عام لآخر يكبرون والمسألة تتعقد أكثر على صديقي كما أخبرني، فهو لا يدري ما الذي يجب عليه أن يفعل.

سألته عن رأيه، فقال إنه في قرارة نفسه يفضّل أن يربّي أبناءه في أوروبا على أن يربّيهم في مدينته كما نشأ هو، وهي المدينة التي توصف بالطهر والتدين ويُرفع فيها الأذان جهراً قبل كل صلاة، فتجربته الشخصية كل عام جعلته يعيش تغيّراً واضحاً في طباع أبنائه نحو الأسوأ كلما عاد بأسرته نحو فرنسا آخر الصيف، مما جعل أسئلة كبيرة تؤرقه وتطرد النوم عنه، فما الذي يحدث بالضبط؟ ألا يفترض أن يحدث العكس؟ بل كيف يقنع والدته بذلك؟
 

الأسرة والتربية وغرس القيم وتنميتها ومعاهدتها قضايا ليست للمساومة والحظ، وإنما هي مغامرة حقيقية تستدعي الكثير من الجهد.

أخبرني أن فرنسا ورغم كونها أقل شأناً وقيمة وظروفاً من بلدان أوروبية كثيرة، إلا أنها أفضل حالاً من وطنه، فيها يجد فرصاً أكثر للجلوس والحوار مع أبنائه، وطرح أكثر المواضيع جرأة وصراحة بأسلوب الإقناع وتبيان الأحسن والأسوأ بوضوح من زاوية وقائية، بينما لا يجد نفس الفرص في بلدته لأسباب تتعلق بثقافة المجتمع المبنية على إخفاء الجوانب السيئة وتجاهلها إلى أن يتم السقوط فيها فيتم اللجوء للعلاج بالردع غالباً، مما يعيق الوصول بنتائج فعالة.

ومن بين الوقائع الغريبة أن ابنه الذي يبلغ من العمر ست سنوات وفي إحدى السهرات العائلية بعد العودة إلى فرنسا أخبره أنه ومع ابن عمّ له في نفس عمره وطفلين آخرين كانوا طيلة الصيف يسرقون من تاجر في حيهم دون علم أحد، ورغم أنه يعلم أنه تصرف سيء إلا أنه يشاركهم في العمليات تحت تهديداتهم، ولما سأله والده عن السبب، أجابه أن ابن عمه أخبره أنهم غير مكلّفين بعد ولا إثم عليهم وهذا ما قالته أمه لوالده يوماً ما لما شكى له صاحب المتجر أمر سرقة ابنه.. هكذا يكون المفرّ من زاوية الدين ومعادلة الجزاء والعقاب، فيصبح فعل السرقة مثلاً أمراً مبرراً دون حرج. 
لا يمكن بالطبع أن نفاضل بيئة على أخرى بمجرد بعض الحوادث، إلا أننا نحللّ هنا ظاهرة التدين والجغرافيا، فهل هما متلازمان وبينهما علاقة بالضرورة أم هناك زوايا أخرى جديرة بالتأمل وإعادة النظر؟ خاصة أننا في زمن تعدد المصادر في المعلومات والمعارف والنماذج التفسيرية، وهنا اهتزت الكثير من القناعات القديمة، وصار مفهوم بلاد الكفر وبلاد الإسلام على المحك خاصة في عقول الشباب ممن عاش الحالتين معاً.
 
الأسرة والتربية وغرس القيم وتنميتها ومعاهدتها قضايا ليست للمساومة والحظ، وإنما هي مغامرة حقيقية تستدعي الكثير من الجهد لهدم المفاهيم البالية وبناء مفاهيم فعالة أصيلة تستجيب لأسئلة العصر المحيّرة، خصوصاً أن زمن التربية بالعصا والرهبة وإشارة العين وفرض السلطة قد ولّى، وصرنا لواقع آخر تماماً يستلزم حواراً وإقناعاً ومنطقاً وتناغماً بين الأقوال والأفعال.
 
ففي أوروبا بكل تحدياتها ونقائصها إلا أننا لا ننكر الحديث عن العدل والشفافية والتصالح مع الذات والخروج عن سلطة الموروث الثقيل، على خلاف أوطان تدعي الإسلام والتدين وتمارسه في أقوالها وكتاباتها ولكنها تخفق في أول اختبارات الحياة، وهذا ما يتفطن له الطفل قبل الكبير فيفقده الثقة ويتيح له البحث عن بديل يقتدي به، فلا مجال للمناورة والادّعاء، بل وجبت الصرامة والصراحة مع ذواتنا واعتقاداتنا.. فهل نحن في بلاد العدل وأوروبا هي بلاد الجور؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.