شعار قسم مدونات

إلى صديق ما..

blogs - love
إلى أنصافنا الأخرى في مكان ما، إلى نبض قلوبنا الضجرة والملولة، وعكازاتنا التي نتكئ عليها حين نمر بعثرات الزمان المستبدة، إلى الذين كانوا قادرين على سحبنا من ركام الماضي برفقتهم، بكوب قهوة صباحي، بجلسة تحت أشعة الشمس الحارقة دون أن نكترث، إلى أولئك الذين اصطحبونا أياما وساعات ودقائق، وفي كل موعد قررنا الذهاب مدد اللقاء أحدنا لربع ساعة إضافية أو لربما خمس دقائق، وكأننا نعتبرها سنة.

سنقف متقابلين تفصلنا بضع خطوات، سيتجرأ أحدنا على القيام بذرعها، سيخفض نظره للأسفل حين يشعر بغصة البكاء قد احتلت حلقه، ودمعت عيناه ببكاء ذكريات قد يطول الحديث عنها، فيغير مساره ويرحل بصمت متناه.

قد كانت الأيام حينها قاسية علينا، حين ظنت نفسها أنها تمنحنا السعادة بقربهم، وندمن على ذاك الوجود اللطيف إلى جانبهم، أخطأ العمر حين ازدهر قرب صديق، وظن أننا سنبقى للنهاية كما بدأنا، فما عاد يخشى شيئا، إلى أن أوصلته النهاية فأصبح يخشى من نفسه، هزيلا تبكيه نسمة هواء ومقعد خال، وسيرة عابرة، وقهوته التي أصبحت وحيدة، يخيفه النوم مبكرا وأن يكون آخر ما يقوم به تصفح خبر لامرأة أرادت سرقة متجر، لا صديق يخبره ما حصل معه في الساعتين التي افترقا بها. سيمر يومك بلا شيء يثير اهتمامك، ستهمل التفاصيل وتصبح لا مبال بشيء، حزين متثاقل تمضي وقتك في البحث عن خصلة شبه لصديقك الراحل فتلوذ بالفشل، فتمل من قلبك العجوز اللحوح كثير التذمر وذاكرتك القاسية في إعادة كل المشاهد النائمة تلوعك وهي تستلذ بهذا العذاب. يا ويل تلك الأيام الظالمة حين قست فلم تنبهنا وأبقتنا على حالنا نحب حتى مل الحب منا، ففرض لنا الفراق حتى انتهينا، يا ويلها حين لم تدرك أن فراق الأصدقاء لا يوازيه فراق الأحبة، فلم تنبهنا بأن نأخذ حذرنا من فراق قادم ومن برود آت.

كيف ترانا نستسهل ظهور الصدأ على علاقاتنا التي لم يخف اتقادها يوما، كيف نستسهل أن من كانوا يشاركوننا بأدق التفاصيل أصبحوا الآن غرباء إلى حد اللااحتمال، نفقد قدرتنا في السؤال عن حالهم، أو أن نمد لهم داوء كان بجعبتنا إن رأيناهم متألمين، لكننا لم نعد نملك هذا الحق، فالغريب لا يملك حق السؤال. سنبقى نرقبهم ويرقبونا، ونغص بألمنا الصامت، ونتجاهل العتاب فهو الآن حق مسلوب، ستجمعنا الصدف بكل الأماكن شامتة بضعفنا في اللقاء، ومستلذة بنظراتنا الضائعة في الفضاء حتى لا نلتقي بأنظارنا. لا شيء سيدعونا للحزن بعد خسارتنا لصديق، سوى الفراغ الذي سيصحب رحيله، وبرودنا تجاه كل شيء وفقداننا الثقة بكل شي، لا شيء سيبكينا فعلا ويؤلمنا بعناء غير أننا سنفقد الملاذ الوحيد لفرحتنا، لحزننا، لكآبتنا.. هل يحق لنا بعد فراقهم حين يسرنا خبر أن نذهب لهم كما اعتدنا ونرقص فرحا بعيوننا الطفولية؟ هل سيستقبلوننا بنفس تلك الطريقة التي كانت بماضينا؟

أظن أن البرود سيلقي نفسه بيننا، سنقف متقابلين تفصلنا بضع خطوات، سيتجرأ أحدنا على القيام بذرعها، سيمشي للمنتصف ثم يعوج رجله إلى الناحية الأخرى، ويخفض نظره للأسفل حين يشعر بغصة البكاء قد احتلت حلقه، ودمعت عيناه ببكاء ذكريات قد يطول الحديث عنها، فيغير مساره ويرحل بصمت متناه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.