شعار قسم مدونات

أخطر جريمة اقترفها التعليم

blogs-مدرسة

الهدف من التعليم الجيد هو بناء جيل فضولي ومتسائل ومتعلّم مدى الحياة، جيل متدرّب على طرح الأسئلة والبحث عن إجابات، جيل قادر على تحديد ميوله واتجاهاته واتخاذ قراراته المصيرية ليكون مؤهلا لقيادة مستقبله ومستقبل وطنه.

ولكن جريمة الأنظمة التعليمية العربية في حق الأجيال غيرت معالم تلك الصورة المثالية، فبدأت الجريمة من أول لحظة أقنعونا بها بأن كمية الأشياء التي نحفظها لأجل ساعة الامتحان هي المقياس الوحيد لنجتاز به معترك الحياة.

تلك اللحظة التي تحولنا فيها من إنسان طبيعي يفهم ويحلل ويدرك إلى آلة تنفذ الأوامر دون أن تسأل، تلك اللحظة التي تحولنا فيها من عقل يفكر بحريّة إلى فلاش ميموري تحفظ وتحذف، تلك اللحظة التي أصبحنا فيها نسخة طبق الأصل عن أي انسان يتقن المهارات الأساسية فقط كالحفظ والجمع والطرح حيث يمكن ارسال تلك النسخة الى أي مكان في العالم فتكون صالحة لأداء تلك المهام لضمان سير العمل فقط دون أدنى اهتمام بذلك الإنسان الذي فقد قيمته الحقيقية.

إذا كانت إراقة الدماء تقتل الإنسان فجريمة التعليم قتلت الحاضر والمستقبل وأجمل ما في الإنسان.

تلك اللحظة التي ضاعت فيها قدرات وإمكانات ومواهب أجيال بأكملها عندما قتلنا فيهم روح الفضول والسؤال والابداع وأجبرناهم على الحفظ والتلقين والاستسلام لورقة الامتحان فيذهبون الى تخصصات لا تتوافق مع ميولهم وقدراتهم وامكاناتهم. والنتيجة هي أن أغلب خريجي الجامعات العربية يعملون في مجالات تختلف عن تخصصاتهم.

وكما قال باولو فريري في كتابه تعليم المقهورين: "التعليم البنكي هو الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات – سابقة التجهيز – في أدمغة المتعلمين الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات. ومن شأن ذلك – التعليم البنكي – أن يخرج قوالب مكررة من البشر تساهم في تكريس الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى على أوضاع جائرة!"

إنها جريمة حقيقية بكل معنى الكلمة، فإذا كانت إراقة الدماء تقتل الإنسان فجريمة التعليم قتلت الحاضر والمستقبل وأجمل ما في الإنسان، ما الذي نفعله بأبنائنا في مدارسنا وبيوتنا؟ نحن نقمع شغفهم ونقتل روح السؤال عندهم. نكافئهم على إجابة السؤال وليس على قدرتهم على طرح سؤال جيد، بل قد نعاقب أحيانا على كثرة السؤال، ولأجل ذلك أصبح عندنا أزمة وانعدام في الإبداع، بالرغم من أن القدرة على طرح الأسئلة الذكية المبدعة معيار أصدق وأهم بكثير من القدرة على حفظ الأجوبة الصحيحة الجاهزة.

فبعد حشو أدمغة الطلاب بهذه الكمية من المعلومات وحفظها والاستسلام أمامها وتبنيها وإتباعها، هناك يصطدم عقل المتعلم بعقبة جوهرية، وهي أن هناك شخصا آخر قد فكّر وقرّر نيابة عنه ما هو الحق وما هو الباطل، وأن هذا الشخص يمنعه من الاعتراض عليه والاختلاف معه. المتعلم هنا يتحول إلى أداة سلبية لتنفيذ معرفة جاهزة ومنجزة مسبقا دون أدنى تدخّل.

تعليمنا يصنع أجيالا مهزوزة تواري ضعفها وسوأتها بالاعتراف كذبا بأنه يفهم الدرس وليس عنده أسئلة. ولكنه سرعان ما يفقد تلك الثقة ساعة الامتحان وعند مقابلة العمل وفي ميدان الحياة.

لم يعد دور النظام التعليمي الجيد مقتصرا على إكساب المهارات الأساسية في القراءة والكتابة والعمليات الحسابية والمهارات الأولية لمزاولة حرفة ما، بل توسّع ليشمل تملّك قدرات التحليل والتركيب والنقد والتنظيم واتخاذ القرارات وتنمية الإبداع وغير ذلك من الكفاءات السلوكية والعقلية العليا.

والمطلوب لكي نخرج أبنائنا من أسر هذه الجريمة هو إطلاق شغفهم للبحث والتعلم الذاتي، فليس مطلوبا منكم أن تجعلوا أبنائكم وطلابكم مخترعين ومبتكرين وعلماء عظماء فهذه ليس مهمتكم، ولكن فقط مطلوب منكم إطلاق شغفهم في مرحلة مبكرة للبحث والابتكار، ثم اتركوا لهم المجال ليكملوا بقية المشوار وحدهم.

ففي الولايات المتحدة قامت مدرسة "فيبي هيرتس" الابتدائية بعمل معرض للمخترعين الصغار، يقومون فيه بعرض كافة مخترعاتهم، والتي بالرغم من بساطتها إلا أنها تنم عن مواهب مبكرة وميول ابتكارية لا بأس بها بين هؤلاء الأطفال الصغار.

وفازت "سبنسر ماكفاي" في الصف الثاني الابتدائي بالجائزة الأولى عن اختراعها الذي هو عبارة عن ماكينة بسيطة جدا لإطعام الطيور ولإخفاء مفاتيح المنزل في الوقت ذاته، وكانت هناك العديد من الاختراعات الأخرى التي أثارت انتباه الزائرين، مثل باب لمنزل الكلب يعمل بالطاقة الشمسية تمنعه من الحفر أسفل منزله للهروب منه، وأداة لتنظيف غرف الأطفال الفوضوية المليئة باللعب الملقاة في كل مكان، والتي تتكون من ملقاط مغناطيسي، إضافة إلى مصيدة فئران.

كل هذه الابتكارات بسيطة جدا وقد لا تتحول إلى منتجات تجارية، ولكن تخيلوا حجم الفضول والشغف الذي تشكل عند الطفل ليعيش بقية عمره في ميدان البحث والعلم والابتكار دون الحاجة إلى أي مساعدة خارجية، ليكون بذلك متعلّما مدى الحياة
 

نريد معارف عملية وتطبيقية وليس فقط مناهج محشوة بنصوص نظرية لا تستفز حسّ الفضول والسؤال والبحث عن أطفالنا.

نحن بحاجة إلى أن نكون جهازا رقابيا ناعما بجميع أطياف المجتمع، لا نحاسب أبنائنا على ما حصدوه من علامات، ولا نكافئهم على إجابات الأسئلة وإنما نكافئهم على المشاريع الحقيقية التي قاموا بإنجازها والمهارات الجديدة التي اكتسبوها.

نحن بحاجة إلى تعليم يضمن للإنسان بناء ثلاثية القيم والمعارف والمهارات.
نريد منظومة قيمية تضمن لنا التربية وليس الرعاية وتأمين متطلبات الحياة الأساسية من طعام وشراب ومصروف.

نريد معارف عملية وتطبيقية وليس فقط مناهج محشوة بنصوص نظرية لا تستفز حسّ الفضول والسؤال والبحث عن أطفالنا.

نريد طلابا يمتلكون مهارات حقيقية تعينهم على النجاح في الحياة لذواتهم ولأجل رفعة أوطانهم.
لذلك لا نريد نهضة لأجل التعليم والإنسان. وإنما نريد تعليما وإنسانا لأجل النهضة.

تلك كانت صرختي لأجل تعليمنا العربي المكلوم.. ولأجل مستقبل أبنائنا.. فلا تتركوها صيحة في واد.. ولا نفخة في رماد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.