شعار قسم مدونات

لن أصِل قبل الأوان!

blogs - self
بكلّ صدق، أبدأُ كتابةَ هذه المدوّنة وأنا لا أعلم بماذا وكيف سأنهيها، وتماشيًا مع العنوان؛ يبدو هذا منطقّيّا!

مرحبًا، هذا حديثي؛ حديثُ فتاةٍ لم تصل بعدُ لأيِّ شيءٍٍ، تكتبُ لأنّها تؤمن أنّ الكتابةَ خطوةٌ على الطريقِ، طريقِها الطّويل. تبالغُ بنحتِ العِبارات وباستقاء المعاني الخفيّةِ من النّصوصِ التي تقعُ تحتَ يديْها -والتي قد لا تحتوي على أيٍّ منها بالمناسبة!- . تنتظِرُ أن تتمّ الموافقة عليها كمدوِّنةٍ هنا، وكنوعٍ من التذرّعِ بالأمل واستباق الأحداث تُجهِزُ على مدوَّنَتِها الأولى..

بلا شكّ أنّنا جميعًا نرغب بالوصول إلى الأماكن التي نحبّها ونطمحُ إليها، سواءً أكانت تلك الأماكنُ مجازيّةً أم حقيقيّة. ولكنّنا كبشر لا يمكننا أن نُشفى من حمّى الاستعجال، استعجال كلّ شيءٍ، ولهذا نتعثّرُ غالبًا بصخرةِ خطِّ الزّمن الطّويل. يُتعِبُنا الجريُ خلفَ الأشياءِ بعيدةِ المدى، حتى إن كان الطريقُ إليها صحوًا وواضحَ المعالمِ، فهذا كلّه لا يلغي الحقيقةَ: الطريقُ طويلٌ!

في مجتمعٍ كالذي نحيا فيه، لا يبدو غير هذا منطقيًّا، ويمكننا أن نجد لذلك كثيرًا من المبرِّرات؛ أوّلها قِصَرُ النّفَس الذي يُشهَدُ لنا فيه، وآخرُها كثرة السؤال عن جدوى ما نفعله ونحن نسير منذ مدةٍ تبدو في حساباتنا طويلةً جدًا، بلا نتيجة تُذكر للحدّ الذي نعتقد فيه أنّ السيرَ وعدَمَه واحد، مرورًا بأعمدة الظلام التي تقف على جنبات الطريق وما إنْ يفرغْ منك واحدٌ منها حتى يتلقّفَك غيرها. فوقَ هذا يظلُّ هنالكَ هاجسٌ أكبر وهو ما يشكّل خوفنا الحقيقيّ: أن نصلَ في النّهاية للمكان الذي نريدُه ولكن.. بعد فواتِ الأوان، ليضيعَ تعبُ الرّحلةِ هباءً.

عالقون إذا في أرجوحة فرقِ التّوقيت، بين الأشياء التي تحتاجُ منا انتظارًا وصبرًا حتى يحين أوانُها، والأشياء التي علينا أن لا نتريّثَ لإتمامِها حتى لا يفوتنا هذا الأوان. أتساءَلُ حين أصل لهذه النّقطة من التفكير في كلّ مرّة: ولكن، ما هو الأوان؟ وكيف نعرفُ إن كنّا نقف خارجَ حدوده أم داخلها؟ لا بدّ أنّ هناكَ سرًا وراء هذه الكلمة المحيِّرة!

"مدّة من الزّمن الجيولوجيّ قد يُقاس مداها بمئات الآلاف من السنين، ويندر أن يبلغ مداها أكثر من مليون سنة" انتهى. على نحوٍ غريب، وجدتُ الكلام الذي بين مزدوجَين حين بحثت عن معنى كلمة "أوان" لغةً كواحد من التعريفات، فارتسمت على وجهي ابتسامةٌ لا تقلُّ غرابةً. قلتُ في نفسي بسخرية: الأمرُ إذن قد يمتدّ حتى مئات الآلاف من السنين إنْ اعتبرنا هذا الأوان مدةً من الزمن. و حيث "قد" تفيد هنا التّشكيك؛ يُحتمل أن تكون هذه المدّة أكبر، أي أكثر من مليون سنة!! وماذا أفعل بنفُسي إنْ كنت مضطرّة لانتظار كلّ هذا الوقت وعمري يؤول إلى الصّفر أمام هذا العدد المهول من الأرقام؟ ما العمل ونحن لا نمتلك يافطات ترشدُنا على الطريق؛ توقّف، طريق زَلِق، سلسلة مطبّات، منعطف حادّ…إلخ

لن أصل قبل أن أبدأ المسير، وأقرع الأبواب، لن أصل قبل أن يتملّكني شعورُ أنني في مكاني، قبل أن أشعر بالرّاحة.

لن نفعل شيئًا ولنْ نصِل أبدًا لأيّ مكان إن وضعنا أمامنا كل تلك التساؤلات.. فكلّ الذين وصلوا إلى -ما نعتقدُ أنه- ما كانوا يَصْبون إليه قالوا أن العِبرَةَ كانت دومًا في رحلة السفر/الطريق، وبالكيفيّة التي ساروا فيها نحو أهدافهم الأوّليّة، ثمّ خوّلَهم اجتهادُهم للوصول إلى أماكنهم الصّحيحة في النّهاية، وهذا لا يعني بالضرورةِ أنها تلك التي كانت في خيالهم عند البدء، ولكنّها كانت أماكنَ يستحقّونها وتستحقّهم آخرَ الأمر. ألا يبعث هذا على الرّاحةِ! إنّه يؤكد على حقيقة الوصول إلى مكانٍ ما، أي لن يكون هناكَ "هباء"، في النّهاية لا بدّ أن نصل لمكانٍ ما، سنصلُ إليه وعن رضىً بعد أن نستنفِد كلّ الجُهد الذي يتطلّبه ذلك. وربّما هذا هو ما كان يعنيه "غيوم ميسّو" حين قال على لسان إحدى شخصيّاته الشّهيرة: لن أصِل قبل الأوان!

لن أصِل قبلَ أن أبدأ المسير، لن أصل قبل أن أقرع الأبواب، لن أصل قبل أن يتملّكني شعورُ أنّني في مكاني، قبل أن أشعر بالرّاحة. وطالما أنّني لستُ مرتاحًا هنا والآن فهذا يعني أنّ أواني لم يأتِ فحسب، ولمّا أصِل بعدُ، ولكنّه سيأتي، سيأتي بلا شكّ، ولن يفوتَني. فهو لم يفُت أحدًا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.